in

لو كنت الآن في سوريا

اللوحة للفنان الكبير نذير نبعة

ياسمين نايف مرعي*

لو كنت الآن في سوريا التي أستحضرها، لكنت جالسة حول مدفأة المازوت مع باقي إخوتي، أمي، جدي وجدتي لأبي، ننهي أمسية ماطرة على ضوء “الكاز” وحكايات جدي عن ماضي قلعة الحصن عودةً حتى ثلاثينيات القرن الماضي، بظرف بالغٍ عودنا على إضافته لكل حكاية، حتى عندما يحكيها ثانيةً. كنا ننتظر أن يعيدها لنلتقط ما غيره على نسختها السابقة، لتتولد المتعة ويتجسد التجديد السينمائي في الحكايات، بأدوات جدي المرهفة، لكن غير المحدودة.

ألتفت وأنا أكتب هذا النص، في محاولة لاستجماع أفكاري، نافذتاي تمسحان برلين شرقاً وجنوباً، أضواء ليلية متناسبة مع مدينة عالمية لكن منتجة، جهاز التدفئة قريب من درجته العليا، بما يكفي للشعور بدفء ترِف.
قد لا تكون برلين مكاناً مناسباً للتفكير بالوطن وبمفهومه، وبتداعيات هذا المفهوم من علاقة بالوطن (مفهوماً ووجوداً)، وبما نتبادله مع هذا المفهوم وهذا الوجود من واجبات واحتياجات.

قبل ٢٠١١، كانت العلاقة واضحة وبسيطة؛ المبدأ: نمشي الحيط الحيط وندعو الله بالستر، المساحة: تقتصر على ما يكفل تطبيق هذا المبدأ. أما الانتماء، فضيق حد الاكتفاء في قريتنا بمعرفة قبور الأجداد على قلتها.
منذ ٢٠١١، كان التحول في العلاقة باتجاه المزيد من المسؤولية، بمعنى التغيير رغبة وفعلاً، التغيير السياسي، وما يترتب عليه مما حلم به السوريون.

كان هتاف “سوريا لنا وما هي لبيت الأسد” أقدر على التحول بالناس، ولو عاطفياً، للقيام بأعباء الخدمات في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، بعد أن كانت سرقة الكهرباء مثالاً في عهده، فرصة لتحصيل شيء ما من الدولة، على اعتبار انتفاء مفهوم الوطن، المصادر من قبل هذه الدولة.

اليوم باتت العلاقة أشد تعقيداً؛ وبات الوطن نقمة على أهل الداخل، وحلماً بالعودة لأهل الشتات، ونحن من مواقعنا على امتداد خريطة هذا الشتات، نتساءل كل يوم مرات عن مدى قدرتنا على “الاندماج” في سبيل أن نصبح “مشاريع مواطنين” وتصبح لنا “مشاريع أوطان”. تجمعنا دون شروط المطاعم السورية، فقط بسبب الحنين، يجمعنا كذلك تراث غنائي نتهافت على أي مناسبة له، دون شروط أيضاً.
ألمانيا مثالاً على باقي دول الشتات، تصلح نموذجاً لما نحلم به لسوريا، لكن حلماً كهذا لو تحقق، سيكسر حنيننا إلى وطن ما قبل الحلم بالتغيير، وطن ما قبل الدمار ومشاريع إعادة الإعمار!

في كل يوم، ينتصر القادرون منا على حنينهم، أو يتنكرون له، لكن الذين وصلوا منافيهم فرادى، يتوصلون في نهاية كل يوم إلى حقيقة أن الوطن السوري كان أوطاناً صغيرة قوامها بنية اجتماعية سورية صلبة وحيدة هي دون سواها الأسرة، التي ربما يسقط عليها مفهوم الوطن عاطفة وانتماء، فيما نكتفي من دول الشتات بالإحساس بالجميل ومحاولات التأقلم!

ياسمين نايف مرعي – كاتبة سورية مقيمة في ألمانيا

اقرأ أيضاً:

خوفٌ مؤنث على هامش الحرب والمنفى

“الهوية الوطنية” الإشكالية المتجددة

ماذا يعني الوطن يا أنا؟

أخطاء الأطباء في ألمانيا كلّفت أكبر شركة تأمين 15 مليون يورو العام الفائت

أسئلة “الوطن” التي لا تنتهي