in ,

“لستَ وحيداً” لعارف حمزة: القصيدةُ بوصفها قارب النجاة الوحيد

عماد الدين موسى

 

يُسيطر على أجواء قصيدة الشاعر الكُردي السوري عارف حمزة (مواليد 1974)، نبرةٌ حادّة وهادئة في الآنِ معاً؛ ثمّة “الصوت” و”الصدى” ها هنا، وفي درفةٍ واحدة. حيثُ الأوّل بوصفه حالة من الانفجار الخارجيّ وشبيه بالدويّ الهائل للذكريات، فيما الآخر يبقى صوتُ الأعماقِ المخفيّ، والحميم أكثر ممّا ينبغي، دون شكّ.

في مجموعته الشِعريّة الجديدة “لستَ وحيداً”، الصادرة مؤخراً باللغتين العربية والألمانيّة عن دار سيسسيون (سويسرا- 2018)، يستعيدُ الشاعر “عارف حمزة” صرخة الشِعر في وجه البشاعة التي تجتاح عالمنا الراهن، تلك الصرخة المكتومة وكأنّها تتهيّأ للانفجار؛ “الهجران”، “نافذة القطار”، “النار”، “الأنقاض”، “هدنة النسيان”، “الغرق”، المُهرّب”، “القارب المهترئ”، “الحرس التركي”، وغيرها من المفردات والعبارات، التي تخصّ رحلة عبور السوريين من الموت المحتم إلى الموت المؤجّل، نجدها بين جنبات هذه المجموعة، حيثُ الشِعر يغدو قارب النجاة الوحيد، يتمسّك به الشاعر ومن بعده- نحن- القرّاء أيضاً؛ “الرِّقـّةُ عدوّنا الأبديّ/ في هذه الحرب الغامضة./ الرقّةُ تمشي أمامنا فلا نرى أعداءنا/ ومن خلفنا تضحكُ/ وتُطلق علينا النار”.

 

قصيدة الحرب

يكادُ مشهد الحرب لا يُفارق قصائد “لستَ وحيداً”؛ لكن ثمّة خصوصيّة جليّة لدى الشاعر في تناوله الذكي لهذا الجانب، إذْ نجد اللغة الرقيقة والعبارة الشفيفة مقابل قسوة المشاهد المُلتقطة، حيثُ الإدهاش في المزج الإشكالي والحميم ما بين عالمين متناقضين وبصيغةٍ جماليّة غايةً في البراعةِ والذكاء؛ تكاد أن تكون السمة الأبرز لشِعريّة قصائد هذه المجموعة.

في قصيدة بعنوان (نصف قمر)، نجد “الأنا” و”الآخر”، “الأسرّة” و”القبور”، “النجاة” و”الهلاك”، جنباً إلى جنب، عدا عن “نصف قمر” و”مدنٍ” خالية “لم يبقَ فيها أحد”، هذه المشاهد ومشاهد أخرى كثيرة نجدها تتداخل بأُلفةٍ وإتقان، لترسم عالماً خلاباً من الشِعر الساحرِ والمدهش؛ حيثُ يقول الشاعر: “نصفُ قمرٍ يسطعُ الآنَ فوق مدنٍ/ لم يبقَ فيها أحد/ نصف قمر يؤلمني/ كانشطار وجهكِ إلى نصفين/ تحت هذا النصف من القمر الضعيف/ حملنا أولادَنا إلى الأسرّة/ بينما حملهم الآخرون إلى القبور!!”. ربّما، ما نجده هنا، هي حالة من الألم حينَ تجتاح جسد القصيدة، دونما استئذان، وما من أحد يقدر أن يوقف هذا الطوفان.

 

جماليّات المقطع الشِعري

يعتمد “عارف حمزة” في بنية قصيدته على تقنية المقطع، فتأتي القصيدة قصيرة أو قصيرة جداً في غالب الأحيان، فيما يكون بعضها مقسّماً على شكل مقاطع أو اسكيتشات متتالية؛ هذه التقنية تجعل من القصيدة أكثر سلاسةً وتشذيباً وتكثيفاً، عدا عن أنها تضفي شيئاً من النفحة الموسيقيّة، كونها تعتمد تقنيات أخرى عديدة تخصّ قصيدة النثر، بدءاً من تقنية “التكرار”، مروراً بشِعريّة التوتّر في النهايات أو ما يسمّى ببؤرة التوتر، حيثُ ذروة الشِعريّة والإدهاش. بالإضافة إلى اعتماده السرد الشِعريّ في بعض القصائد، وذلك بإدخاله لتقنيّات القصّة القصيرة جدّاً، سيما من جهة توظيفه لتقنيّة “الفلاش” أو الخطف في التقاطه لمشهد جماليّ ما أو من حيثُ التشويّق في سرد حدثٍ ما، دون أن تفقد القصيدة أيّاً من شروطها الإبداعيّة، بل تصبح أكثر تحرّراً من الرتابة المُملّة.

في قصيدة بعنوان (مكان واسع ومهجور)، يبدأ الشاعر بحدثٍ يوميّ (آني): “ترك المفتاح في موضع ما”، لكنه ينتهي إلى السؤال الوجودي حيثُ القلق وحده في مواجهة الحياة وقسوتها، هذا الانتقال التصاعدي المفاجئ يجعل القارئ في نشوة التلقّي، كون عنصر المفاجأة في النصّ يعتبر أحد أهم شروط التلقّي الإبداعي؛ حيثُ يقول الشاعر: “لعلّكِ تأتين/ فأتركُ المفتاحَ تحت البلاطة ذاتها/ وأنتبه لإصلاح ضوء الممرّ/ كي لا يحضنكِ الحائط فجأة/ كما أترك قطع الملابس متناثرة/ بين الحمّام وغرفة النوم/ كعادة مَن يُهاجمونه بقسوةٍ/ لعلّك تأتين أيّتها الحياة/ وتجدينَ مكاناً واسعاً/ هجره الآخرون”.

لعلّ اللافت، في القصيدة السابقة، تلك المرونة في السرد الهادئ مع دقّة اختيار المُفردات، لتأخذ كل مفردة مكانها المرجوّ، وكأننا هنا نصغي إلى قطعة موسيقيّة، لا أكثر ولا أقلّ.

 

جولة أخيرة

مجموعة “لستَ وحيداً”، والتي جاءتْ في مائتان وثمانية صفحات من القطع المتوسط، الإصدار الشِعري الثامن في رصيد “عارف حمزة”، الشاعر السوري المُقيم في ألمانيا منذ 2014، إذْ سُبِقَ لهُ أنْ أصدر سبعة مجموعات شِعرية، هي: “حياة مكشوفة للقنص” (2000)، “كنتُ صغيراً على الهجران” (2003)، “قدم مبتورة” (2006)، “كَيَدَيّ مُحتاج” (2007)، “الكناري الميّت منذ يومين” (2009)، “قرب كنيسة السريان” (2012)، “لا أريد لأحد أن يُنقذني” (2014)؛ إضافةً إلى أعماله الشِعريّة الكاملة والتي صدرت ضمن سلسة أبابيل الرقميّة (2016).

ترجمت قصائد الشاعر حمزة إلى لغاتٍ عدّة كالفرنسيّة والإنكليزيّة والألمانيّة والتركيّة والكرديّة والإسبانيّة والفنلندية والدانماركيّة والكاتالانيّة والسويديّة. كما حاز على عدد من الجوائز الأدبيّة من بينها جائزة محمد الماغوط للشعر (2004).

جديرٌ بالذكر أن الترجمة الألمانيّة للقصائد أنجزتها المُترجمة الألمانيّة ومؤسسة دار نشر (10/11) ساندرا هتزل، وقد سُبِق لها أن ترجمتْ للشاعر نصّاً بعنوان “جولة تعذيب أخيرة” في العام 2011، أي قبل إقامته في ألمانيا بثلاث سنوات. وأصبحت القصيدة مونولوجاً في مسرحية ألمانية، عرضت في برلين.

 

خاص أبواب

إقرأ/ي أيضاً:

“كُنْ بريئاً كذئب” تقديس الحُبّ في كتاب ريم نجمي

“أرمي العصافير على شجرة العائلة” لرشا القاسم: تجلّيات العنْونة

عن الفنون التي لا تنام في المنافي! آراء ثلاثة مبدعين سوريين في الفنون وتغييراتها في المنافي

الرضوض النفسية (التراوما) في آداب المنافي واللجوء: تأملات حول قديم وجديد آداب المنافي ج1

حادثة مأساوية ضحيتها طفلة صغيرة بسبب نسيان والدها لها