in

لماذا صرت لاجئًا

تصوير فراس الشاطر

فادي جومر

أن تكون أبسط حقوقك الطبيعيّة أحلامًا شبه مستحيلة، هي الحالة الأكثر إيلامًا، وانتشارًا في بلدي.

أن تغنيّ ما تشاء وتقرأ ما تشاء، أن تلفظ أي اسمٍ يخطر ببالك دون أن تضطّر لخفض صوتك أثناء نقاشك مع أخيك في غرفةٍ مغلقة، في حقل ناءٍ!

أن تستطيع القول أنّ نمطًا غنائيًا معيّنًا هو طعنة في الوجدان الموسيقي دون أن تُتهم بالطائفية، أن يكون لك الحق في النفور من فنانٍ تشكيليّ ما دون أن توهن نفسية الأمة، أن تُردد قصيدةً لشاعرٍ متمرّدٍ دون أن يخاف صوتُك مِن حنجرتِك، أن تنتقد أداء محررٍ أو مقدم نشرة أخبار دون أن تكون عميلاً للإمبريالية.

كنتُ أبحثُ عن حديقةٍ حقيقيةٍ لابنٍ أتمنى إنجابَه، حديقة لا تحمل اسمَ حربٍ، أو فارسٍ لم يمتطِ غير رقابنا، حديقة طبيعة بلا تمثالٍ لقاتل، أو مشروع قاتل.

كنتُ أبحثُ عن مدرسةٍ لا تفرض النظريات السياسية كحقائقَ مقدسة، ومدرّسين لا يخافون أسئلتي عن تاريخ بلادي وجغرافيتها، مدرسةٍ بأسوارٍ من شجيرات، كنتُ طفلاً وحسب، أليس من البديهي أن أنفر من مدرسة سورها كسور السجن؟!

حلمتُ لسنواتٍ بأن أكون قادراً على الانضمام لفريق كشافة، أنصب خيمةً في غابة، أمضي أسبوعاً في الطبيعة، أغني للحياة وحسب دون أن أكون مسيحيًا! أكاد أهرم ولم أعرف بعد لِمَ كانت فرق الكشّافة في بلدي بحاجة لانتماء دينيٍّ معينٍّ دون غيره.

كنتُ أحلم وحسب، وحين كبرتُ كفايةً عرفتُ أنّي في أرضٍ لا تنبت الأحلام فيها إلا مقلّمة، مشذّبة، كأشجار المرجان في قصور الأغنياء.

أعرف أن الألمان لن يدركوا أنّ بلدي قبلَ ما يسمونه “حربًا” كاد أن يكون أسوأ مما بعدها، وأنّ القتل بالقصف، أو الكيماوي أو بالسلاح –الذي ربما باعته بلادهم للديكتاتور الذي يحكم بلادي– ليس النمط الوحيد للموت. الاضطهاد الديني: موت، الأحلام المحاصرة: موت،  الرعب النائم في الأسئلة البريئة: موتٌ أيضًا.

لن يفهموا كيف تحتاج الأغنية إلى “تصريحٍ أمنيّ”، وكيف يدفع إنسانٌ حياتَه ثمنًا لقصيدة.

بلادي بالنسبة لهم رائحة البخور وسحر اللون الأسمر، خصوصية الشرق الآسرة، الأسواق المسقوفة والبيوت التي تكاد تكون حدائق، كيف تقنع سائحاً بأن كل هذا مختلف عن حياة السوري؟!  لن يفهم الألمان ولا غيرهم، لن يعرفوا يومًا ما الذي يعنيه ترديد الشعار أو الخوف من لهجة بعينها.

ما زلتُ رغم الأشهر التي أمضيتها في ألمانيا حتى الآن، ورغم أنّني غادرت بلدي منذ قرابة عامين، مازلت أخاف من الشرطيّ وموظف المطار، ما زالت ملامحي تهمةً لا براءة منها، كيف سيعرف ألماني معنى هذا القلق؟  كيف سيدرك أنّي خائفٌ حتى من التصريح بخوفي.

لعلّ أقسى ما في اللجوء هو السؤال الليلي الذي ينهش القدرة على النوم: من أنا؟ من أين ورثتُ ملامح روحي؟ لماذا أحاول الهرب منها؟ لماذا صرتُ عدوي؟

قبل أن أقتنع بأنّي لاجئ، لا بدّ لي من وطن، وطنٌ يسمح لي بالانتماء والتمرد على حدٍ سواء، وطنٌ يسمح لي بالسفر أو العودة، وطن طبيعي لا أغادره مضطرًا لأصبح لاجئا.

يوجعنا –نحن الغرباء المولودين شرق المتوسط، الحالمين بشماله– فقدُنا الممضّ لانتماءٍ نحتاجه، حتى نشعر بترف الغربة بدايةً، لنصل بعده إلى اللجوء، أليس اللجوء هروباً من وطنٍ ما؟

أنا هاربٌ من الفراغ، من اللامكان، من أرضٍ تستبيح الروح، هاربٌ بحثاً عن وطنٍ أحيا فيه، فما زلت يافعًا لأموت فداءً للقائد، أجل لقد عشتُ في بلادٍ تُجبر الأطفال على ترديد نعواتهم باسمين: “بالروح .. بالدم .. نفديك يا بشار.. “

الشاعر الطبّاخ الذي لم ينسَ أهله

ملائكة محطة القطار