in

عن “طريق النحل”..،. المسرحيّة لا الأغنية

تصوير خلود طنوس
رشا حلوة – برلين

كانت مسافة الوصول إلى مسرح “شاوبونه” في برلين ليست بالقصيرة، صديق اقترح أن أذهب عبر الباص، كي أرى المدينة، مقارنة بطريق الانتقال عبر المترو وتحت الأرض. تحمّست لاقتراحه، حماسةً إضافيّة ازدادت على رغبتي برؤية مسرح جديد لم أزره من قبل، وكذلك لمشاهدة العمل المسرحيّ “طريق النّحل”، كتابة وتمثيل خليفة ناطور وإخراج أوفيرا هينيج، عمل مسرحيّ عُرض لمرات عديدة في برلين وكذلك في حيفا، وهو يأتي ضمن مشروع “من مرّوا”.

وصلت وحدي إلى المسرح دقائق قبل بداية العرض، يوم الجمعة 21 نيسان. كانت الحالة غريبة بعض الشّيء، الوصول إلى مسرح لا أعرف فيه أحدًا، حالة لم تطُلْ كثيرًا، حيث برلين مدينة الصّدف والمفاجآت، فألتقي بصديق فجأة، ومن ثم بصديق آخر، وهكذا.. صدى جملة “هذه هي برلين”، يتردد في أذهان كلّ منّا.

بدأت المسرحيّة دقائق قليلة بعد موعدها. دخلنا إلى المسرح الصّغير؛ مدرج ومساحة للعرض، بلا منصة. في مساحة العرض هنالك كرسي يقع في المركز، وراؤه شاشة بيضاء للترجمة وللمواد البصريّة، وطاولة صغيرة في الظلّ، عليها زجاجة ماء بلاستيكيّة وبعض الأغراض غير واضحة المعالم.

دخل خليفة ناطور إلى المسرح، جلس على الكرسي، وعلى الفور بدأ صوت يردد كلمات باللغة الألمانيّة، وبحركات وجه تشبه حركات البقرة التي تأكل العشب، يردد خليفة معاني الكلمات بالعربيّة، وهي كلمات أساسيّة للحوار والتواصل: “صباح الخير”، “تصبحون على خير”، “أنا جائع”، “إلى اللقاء”، وغيرها. مشهد يرتبط فورًا بوضع اللاجئ العربيّ في ألمانيا وواقعه، الذي يتعلّم اللغة، فتعرّفنا المسرحيّة على المكان والزّمان: ألمانيا 2017.

من الحاضر هذا، نذهب إلى الماضي، ماضي الشخصيّة المركزيّة والمرتبط في طفولتها. بلا تفاصيل واضحة عن خلفية الشخصية نفسها، مكان إقامتها أو مسقط رأسها، لكننا نعرف أن الشخصية تحنّ لزمنٍ ما، للعمّة فضّة وإنتاجها للعسل من النحل، وقصته مع العسل كطفل، ومع العمّة، وكذلك مع النحل/ الماضي.

تعود بنا المسرحية في مشهد آخر وإلى الحاضر من جديد، إلى الزمن الحالي الذي تعيشه الشّخصيّة، فنعرف معلومة إضافيّة وأساسيّة عنها: شاب فلسطينيّ مقيم في حيفا. نعرف ذلك حين يقول بنبرة تعبٍ وملل:  “انتهت فترة النقاشات في حيفا”، متحدثًا عن رغبته بإنقاذ العالم. من ثم ينتقل للحديث عن اليونان، بنبرة مثقف قارئ للميثولوجيا الإغريقيّة، بشعرائها وفلاسفتها، بسوفوكلس الشاعر صافو، وبجزيرة ليسبوس، التي ترتبط في عقولنا فورًا باللاجئين.

تبحّر المونودراما في حوار الماضي (الحنين) والحاضر: في شخصيّة شاب فلسطينيّ مقيم في حيفا ومولود في إحدى القرى الفلسطينيّة وحامل لجواز سفرٍ إسرائيليّ (حاضر)، حيث ارتباطه بالأرض والشّجر والطبيعة (ماض)، بحاجته الأساسيّة لأن يفعل شيئًا من أجل اللاجئين السّوريّين وبهذا سيُنقذ العالم، معتمدًا على مقولة من أنقذ شخصًا واحد كأنه أنقذ البشرية بأكملها (حاضر)، الذي ترتبط لديه اليونان بثقافة قديمة يحبّها جدًا  (ماض)، لكنها تشكّل اليوم محطّة استقبال وعبور للاجئين (حاضر). كما أنها تبحّر في وضع اللاجئ العربيّ/ السّوريّ اليوم، فور الوصول إلى ألمانيا في حالة المسرحية، وسيرورة “الاندماج” والتأقلم في المدينة بناءً على “بروتكولات وتعليمات واضحة” تضعها الدول المستقبلة (حاضر).

كفلسطينيّة من أراضي الـ48، كان من المشوّق أن أرى هذا الجانب الذي يحضره العمل المسرحيّ، والذي بجزء كبير منه، وإن كان بشكل غير مباشر، يحكي قصتنا كفلسطينيّين نعيش اللجوء في وطننا، ارتباطنا بالأرض، الذّاكرة الموروثة عن النكبة والتهجير، علاقة المؤسّسة الإسرائيليّة معنا، حاملي جوازات السّفر الإسرائيليّة، علاقتنا مع هذا الجواز وعلاقة العالم العربيّ معه. وبالتالي، كيف ترى وتتعامل كلّ هذه التركيبة الفرديّة والجماعيّة (للفلسطينيّين في الداخل) مع قصّة اللاجئ السّوريّ اليوم في الحاضر، وكيف نرى دورنا تجاه هذه القصّة التي نراها في أعيننا ونسمع عنها من الأصدقاء قبل نشرات الأخبار، نحن الذين نقضي أوقات كثيرة في مقاهي حيفا، هذه المقاهي التي تشكّل جزءًا أساسيًا من فضاءات آمنة نحكي فيها عن السياسية والثقافة والمجتمع، وعن العالم الذي يحيطنا ويعيش فينا. وفي نفس الوقت، نحكي عن العجز المتواصل الذي نشعر به.

يصل الشّاب الفلسطينيّ إلى اليونان، يقترح مساعدته كمترجم من الإنكليزية إلى العربيّة والعكس. يقرر أن ينضم إلى حافلات اللاجئين ليواصل المساعدة قدر الإمكان. في الحافلة، يطلب منه أحد أفراد الشرطة أن يخرج، لأنه لا يحمل وثيقة لجوء إنما جواز سفرٍ (الحافلة معدّة للاجئين فقط). في هذه اللحظة، يشعر الشّاب الفلسطينيّ وسط اللاجئين بالخجل. (شعور غير محصور فقط في هذا المشهد). لكن، لم تُذكّر هويّة جواز السّفر هذا خلال المسرحيّة. لربما كان مفهومًا للبعض، وللبعض الآخر لم يكن واضحًا، وأعتقد أن هنالك ضبابيّة ما، كانت مقصودة أو لم تكن، بالتصريح المباشر عن الهويّة الإسرائيليّة لجواز السّفر الذي يحمله، لربما سيعطي التعريف المباشر له، بعدًا إضافيًّا أكثر وضوحًا ومرتبطًا بوضع الفلسطينيّ في أراضي الـ 48 وعلاقته مع العالم العربيّ.

هذه الضبابيّة تتواصل في حضور اللغات بالعمل المسرحيّ. بالإضافة إلى العربيّة، يحتوي النّص على الألمانيّة والإنكليزية وكذلك اليونانيّة القديمة، التي يتحدث فيها الممثل وفقًا للمشاهِد. إلّا في المشهد الذي يروي فيه قصّته مع الشّجر وعلاقته بالأرض في قريته الفلسطينيّة، فيعود بالذاكرة إلى الإمساك به في منطقة “ممنوعة”، أحاطوا الأشجار فيها، وإلى ضربه على يد شرطي ضربًا مبرحًا. القصّة تُروى بالعربيّة فقط، بلا العبريّة في مثل هذه الحالة (الشرطي إسرائيليّ)، على الرّغم من الحديث بلغات أخرى عندما كان النص يحتوي على اقتباسات على ألسنة شخصيات أخرى، وغيرها. وبرأيي، الحديث في العبريّة أو اقتباس بعض الجمل بالعبريّة على لسان الشّرطيّ، كان سيضيف بعدًا أكثر حقيقيّة للعمل المسرحيّ، والأهم بأنّه سيخفف عن اللغة حساسيّة ما بالتعامل معها. لربما، لما كانت لتكن هذه الإضافة مهمة لولا حضور اللغات القوي والجميل والحقيقيّ في العمل المسرحيّ ككل.

يتنوّع العمل المسرحيّ ما بين الأسلوب الدّراميّ والسّاخر، حيث تتمركز الدّراما في المشاهد المرتبطة بالماضي والحنين والذّاكرة، وحتى في المشاهد التي تحكي الحاضر، لكن حين تلمس هذه المشاهد حنينًا ما إلى الماضي، تصبح دراميّة. ففي مشهد الحافلة، حين كان على الشّاب أن يخرج منها، تذكّر بأن كيس “الشوكلاطة” التي جمّعه للأطفال ما زال معه، فعاد إلى الحافلة، وأوصى امرأة عجوز بألّا تنساه حين تترك الحافلة، لأن الطعام ممنوع فيها. إلا أن ردها، والكلمات التي استخدمها كما معظم حديث النساء كبيرات السّن حين تخاطب أي شاب أو صبيّة في سنّ صغير، مثل كلمة: “يمّا”، كانت كافية أن تجعلنا نحنّ وتبكينا.

أمّا السّخريّة فهي حاضرة بالأساس في بداية العمل ونهايته (تقريبًا)، وهي مرتبطة في مشاهد متعلقة بوضع اللاجئ في ألمانيا؛ سواء في بداية المسرحيّة مع تعلّم اللغة، وفي نهايتها حين يسرد الممثل بنود من “معلومات أوليّة للاجئين”. كنت أفضّل أن تنتهي المسرحيّة بهذا المقطع، حين يلقي الممثل بنودًا من “معلومات أوليّة للاجئين”، مما يرتبط ارتباطًا وثيقًا مع بدايتها، بل قادرًا على تلخيص المسرحيّة بشكل ما: الضحك على الواقع المرير رغم الحنين إلى الماضي ورغم قسوة الحاضر. لكن المسرحية اختتمت في النهاية ببثّ أغنية “طريق النحل” لفيروز كاملة، مع عرض ترجمة الكلمات باللغتين الإنكليزية والألمانيّة. هذه النهاية كانت مباشرة بشكل أو بآخر سواء بنص العمل وكذلك باسمه، كما وأنه يعيد الدّائرة من جديد إلى الحنين فقط، وهذا ليس سيئًا بالضرورة، بإمكانه أن يحمل المقولة الأساسيّة، لكن حبذا لو أتى من شخصيّة أو شخصيات المسرحيّة، وليس من أغنية فقط، يحمل تجاهها كلّ من يعرفها، ذاكرة خاصّة به، غالبًا بعيدة عن فكرة العمل المسرحيّ ذاته.

جدير بالذكر أن “طريق النحل” من تصميم ديكور: أشرف حنّا، تصميم إضاءة: معاذ الجعبة، الفيديو من تصوير: رياض شمّاس، ومونتاج الفيديو: وافي خليل.

 

عدنان العودة: ما تعرضت له من حاتم علي وإياد أبو الشامات لا يمت للأخلاق الفنية بصلة.

د. محمد شحرور: الإسلام بين الحقيقة والموروث