in

“هيكل عظمي لفيل في الصحراء”، مسرحية عن الحرب والوحدة لأيهم مجيد آغا

تصوير Megumi Grace Okamoto

طريقة العرض وضعت المتفرج في قلب المشهد، تحيط به المسرحية فيتلفت للوراء والأعلى باحثاً في كل مرة، عن مصدر الصوت والضوء والبندقية، الجمهور يجلس مكتوم الأنفاس، بينما يتحرك “ليزر” القناص ليمرّ على الوجوه في عتمة المسرح الذي صاروا جزءاً منه.

عنوان المسرحية وكلامُها الأقسى يأتي على لسان القناص، يتساقط قتلاه بين المشاهدين بينما يأتي صوته من الأعلى هناك، حيث يقرر من يحيي ومن يميت.

التقت أبواب بكاتب ومخرج العمل الفنان السوري أيهم الآغا، وهذا بعضٌ من حديثٍ طويل:

  • القناص/القاتل كانت له المقولات الأقوى في المسرحية، مما أبعدها عن نَفَس الضحية الذي عادةً يخيم على أعمال الحروب ، لماذا اخترت ذلك؟

حين بنيت روايتي، كان القناص هو أكثر شخص حرّ الحركة، هو القادر على رصد المكان بعدسة بندقيته، فهو يرى الشخصيات، يخلق لهم عالمهم الخاص، ويستطيع أن يمشي بينهم ويسمع حكاياهم، دون أن يعرفوه، يرى الجميع، لكن الجميع لايراه.

يستطيع أن يكون أي أحد، وهو الوحيد تقريباً القادر على تقرير المصير أكثر من أي شيء آخر، حتى أكثر من القذيفة نفسها، يحيط تماماً بالهدف الساكن والمتحرك، إنه بشكلٍ أو بآخر صديق القدر.

  • طريقة العرض المتميزة، وضعت المشاهد في قلب الحدث، برأيك ما تأثير هذا النوع من العروض على المشاهد؟ وهل حصلت ردات فعل معينة مفاجئة من أحد الحضور؟

يدور نص المسرحية حول أربع شخصيات يعيشون الحرب الدائرة في سوريا، ولكن مع الوقت نسي المشاهد تماماً مكان الحكاية، وأصبحت حرباً في أي مكان، استطاع المتفرج أن يرى النص عبارة عن صندوقين أسودين متداخلين، فجاء انفعال وتأثر المشاهد الألماني والسوري متماثلاً، (لاسيما أن الأداء كان باللغتين العربية والألمانية).

أعتقد أن المشاهدين فاجأتهم النهاية، بالإضافة إلى طريقة طرح القصص، لأنهم طوال سنوات كانوا يشاهدون يومياً كميةً هائلة من الفيديوهات المصورة، والأخبار التي تحكي قصص الحرب في سوريا، لكن القصص المصورة التي عرضت في المسرحية، لم تحمل قسوة الدم المراق هناك، وإنما تحدثت عن دمار الأماكن والمدن، ولكن دون أصوات القذائف، ودون علامات تحدد أصحاب هذه الأماكن، وبحياد عن الهيكل العظمي لهذه المدن التي تدمرها الحروب. ومن ناحيةٍ أخرى، لفتني أن الجمهور اختار الحديث عن النص فنياً وليس سياسياً.

  • “هيكل عظمي لفيل في الصحراء”، من تأليفك وإخراجك، والمشاركون الآخرون في العمل أمام وخلف الكواليس هم من جنسيات مختلفة، وكذلك الجمهور، ولكن هل تعتبرها عملاً سورياً كونها انعكاس لوضع المدن السورية المنهارة في ركام الحرب؟ وما الذي تقوله غير باقي حكايات الحرب الأخرى؟

ليس للعرض انتماء لبلد معين باعتقادي، فهو يتحدث عن أربع شخصيات بأوضاع متشابهة أساسها الوحدة والحرب، تلك الحرب التي أعيشها أنا شخصياً كل يوم، بغض النظر سواء كنت داخلها أو خارجها فهذا الأمر ينعكس على مدى الأذى الجسدي والنفسي فقط، لكنها بتفاصيل يومي، ولكن الاختلاف بتقديري هو في التركيز على شخصياتٍ بعينها، بغض النظر عن جغرافيا الحرب، مثل شخصية القناص، والتي لم يتم تناولها بكثرة في الأدب، وأيضاً شخصية مدربة السيرك في حالة الحرب، حتى أنني ذهبت إلى مدرب سيرك خاص لأفهم الحالة التي تعيشها الحيوانات هناك، وفاجأني أنها أشبه ماتكون بسجن، تُمارس فيه أنواع التعذيب المختلفة بهدف تدريب الحيوانات على الطاعة، من الصعق بالكهرباء والحرق والتخويف، فلا وجود للفرح أو التسلية هناك.

إضافةً إلى التركيزعلى الشخصيات التي اضطرت لأن تكون ممرضاً أو ممرضة في مكانٍ ما بسبب الحصار، فعملها يحتم البقاء مع المصابين، جمع الأشلاء ورميها، ولا قدرة لديها حتى على الرحيل.

تصوير Esra Rotthoff
  • برأيك يمكن لفنان أن يحقق النجاح أكثر بالالتصاق بمحليته وقضاياه الخاصة الغريبة عن المجتمع المضيف؟

من المحلية يمكن الانطلاق للمدى المفتوح، لأن الحكايات الشعبية هي مثل الأسطورة، تملك نَفَس الأسطورة وشعبيتها، ويمكن تحميلها أكثر من شكلٍ وفكرة ببساطة، وأعتقد أن أي شخص يعمل في مجال الفن، يعود إلى الجذور وإلى أصل الحكايا، بمقدار ماتحمله ذاكرته وحواسه، ومن المؤكد أن هذا يساعد المجتمع على تقبل هذا الغريب وفهمه أكثر، ولا أعني هنا شرح الطقوس والعادات بتعريفاتها الأولية، وإنما أعني العمل بطريقة تحاكي أكثر مفاتيح المجتمعات، فأُلامس الأماكن والشخصيات والانفعالات، التي قد تشبه أي أحد في العالم ولكنها في الآن ذاته خاصة جداً.

  • أغلب العروض الفنية ما بين فن تشكيلي، أدب وشعر مسرح وسينما وغيرها، تتناول إبداعات الفنان اللاجئ كلاجئ. ماذا عنكم أنت وزملاؤك؟

نحن نعمل كمسرحيين بعروض لها علاقة بشكل أو بآخر بموجة القادمين الجدد، كسوريين أو غيرهم، ليس فقط لحاجة الجمهور إليها، وإنما كحاجة شخصية يمكن التعبير عنها فقط بالمسرح، وليس بالصحف والأخبار، نحن نعمل على توثيق الحكايا، ولكن طبعاً بعض القصص يصبح طرحها أسهل عند ربطها بالخيال والارتجال.

لكنّ الأهم في هذا الموضوع، هو أنّ تعامل الناس مع العروض كان على المستوى الفني، من حيث بناء النص، وطريقة العرض وما إلى ذلك، لم يذكر أحد في حديثه المأساة السورية أو قضايا اللجوء، ولم أسمع أبداً أي ردة فعل سيئة عن العمل، حتى المقالات التي كتبت عن النص لم تذكر قصص اللجوء.

  • كمسرحي سوري في ألمانيا هل كانت صفتك كلاجئ سبباً ساهم في نجاحك، وفي قبولك/تقبلك بالدرجة الأولى ضمن مسرح بهذه الأهمية؟

احتفلت منذ أيام بإنجازي لـ150 عرض مسرحي، مع مسرح غوركي خلال ثلاث سنوات، ورقم كهذا برأيي لا يمكن أن يرتبط بكوني لاجئ أم لا، وإنما أعتبر نفسي محظوظاً كوني عملت في سبعة عروض مسرحية ناجحة، حتى تعاد بهذا القدر، وأحدها أعيد عرضه أكثر من 61 مرة.

لم نواجه حتى قبل الحرب كفنانين مسرحيين، أي عراقيل تخص الحدود، وأدينا عروضاً كثيرة قبل الحرب في أوروبا، ولكن كما يعرف العاملون في مجالنا تبقى فرص الممثل في البلد الأم وباللغة الأم أسهل وأكثر، وإنما يختلف الأمر بالطبع بالنسبة للمخرج، حيث تتسع فرص العمل وحريته خارج سوريا.

  • حدثنا عن بداياتك مع مسرح غوركي، وكيف تم تشكيل فرقة المنفى؟ وأعمالك السابقة معها؟

كانت صدفةً سعيدة جداً جداً بالنسبة لي، فقد أتيت كضيف، لتقديم عرض سوري، عملنا عليه أنا ووائل علي وحسان عبد الرحمن، اسم العرض: “بتعرف؟ ماعم اتذكر” وهو يحكي عن الذاكرة بعد العنف. ثم قدمت بعده مشروعي الخاص بعنوان “طعام الصراع” وهو لا يتحدث ابداً عن الحرب، وإنما عن وصفات الطعام التي تتصارع عليها الدول المتقاربة حدودياً مثل تركيا وسوريا ولبنان، حيث أن كل دولة تريد أن تنسب هذه الوصفات لنفسها، وكان عرضاً طويلاً تفاعلياً مع الجمهور، وتمكّن الجميع من المشاركة في طهو الطعام على المسرح. وبعدها، أنجزت مشروعاً اسمه “المدينة الصفراء”، عن دير الزور، والعجاج، وعن الذاكرة البصرية. ثم عرض يدعى (situation).

وبعد ست عروض مسرحية في مسرح مكسيم غوركي كممثل، أنشأنا (أنا ومريم أبوخالد وكريم داوود) فرقة المنفى Exil Ensemble، ومنحتني السيدة شيرمن لانغهوف مديرة المسرح الفرصة والثقة للعمل في أفضل مسرح في ألمانيا، وهي من قررت أن يتطور المشروع بهذه السرعة وهذا التمويل الضخم ليتحول إلى فرقة تجمع الفنانين وتصبح منصة ونقطة إنطلاق لمتابعة ما بدأنا به، حتى أصبحت من أهم الفرق عالمياً. ولدينا لعام 2018 عدة عروض أولها “هاملت مشّين” بتاريخ 24 شباط، وآخرها جلجامش، ومن ثمّ سأبدأ العمل على مشروع بعنوان الواشي لعام 2019.

تصوير Megumi Grace Okamoto
  • هل تتخيل يوماً تقدم فيه عملاً ألمانياً كألماني؟ وهل لديك قلق بهذا الخصوص؟

الآن أنا أقوم بدور شخصية ألمانية، ولكنني لا أستطيع أن أصبح ألمانياً بصراحة، ولا أتكلم هنا عن الأوراق، أنا أحب أنني من سوريا ومن دير الزور، ولا أعتقد أنني في يوم من الأيام سأنسى وأعتبرأنني ألمانيّ، بغض النظر عن حصولي على الجنسية الألمانية، وبالطبع من الممكن أن آخذ من الألمان الكثير وخصوصاً أن زوجتي ألمانية، لكن ليس لدي تصور في يوم من الأيام بأن أستبدل هويتي السورية.

وأريد ان أوضح هنا حتى لا يُفهم كلامي بمعنى خاطئ كما في لقاءات سابقة، ليس لدي أي تحفظات أبداً فيما يخص الجنسية الألمانية، ولكن عندما يحصل الشخص على جنسية بلد ما، فهذا يعني أنه سيتحمل كل الأعباء المترتبة عليها، ويرتبط بها، فمثلاً يوجد بالتاريخ الألماني أشياء كثيرة حصلت، فهل أعتبر نفسي مسؤولاً عنها، أو أني جزء من الإنجازات التي حققها الألمان، حال حصولي على الجنسية الألمانية؟

وهذا ينطبق بالمناسبة على كل الجنسيات الأخرى، لذلك أنا ليس لدي تحفظ وإنما لدي أسئلة، فكيف سأتمكن يوماً من إنشاء تواصل بين التاريخ والانتماء، فأنا في نهاية الأمر سوري أحمل أوراقاً ألمانية، وسعيد جداً بأنني من دير الزور.

  • الكثير من الممثلين والمسرحيين والفنانين من القادمين الجدد يبحثون هنا عن أي شيء.. هوية، وحي، رعاية أو احتضان فني، مصدر دخل.. ما نصيحتك؟

نصيحتي للذين يبحثون عن كل هذه الأشياء، أن نتواصل جميعنا فيما بيننا، فكيف سأعرف بالناس وكيف للناس أن تعلم بي؟ لذلك من الضروري التعارف واللقاء، لكن للأسف طبيعة الحياة الضاغطة هنا تجعل اللقاءات أصعب، فأنا لدي أصدقاء كثر جاؤوا إلى ألمانيا، لكننا لم نلتق منذ زمن، والعائق غالباً ظروفي وظروفهم.

ولكني أعود وأقول على كل شخص أن يعمل على ماهو أصيلٌ فيه، وأن يحاول فهم تجارب الناس الذين سيتواصل معهم، كما أعتقد أنه علينا مقارنة أعمالنا بنتاج الآخرين، فمسألة التواصل والتبادل بين الفنانين على مختلف حضاراتهم وجنسياتهم، هو ماقد ينتج عنه أعمال مهمة. كما أن العمل ضمن فريق أو مجموعة، هو ما يدفع الأشخاص إلى التنافس الجيد والذي بالضرورة تنتج عنه مسببات النجاح.

لابد لي أخيراً أن أقول أنني أؤمن بأن للصدف والحظ دور في حياتنا يكاد يقارب الخمسين في المئة، لذلك فأنا أعتبر نفسي محظوظاً بعدة نواحي، ومنها تواجدي ضمن المجموعات التي أعمل معها، فهي التي تصنع لي التميز.

 

عُرضت المسرحية باللغتين العربية والألمانية على مسرح مكسيم غوركي منذ أيلول/سبتمبر الماضي، والعرض مستمر.

المكان: مسرح غوركي، Maxim Gorki Theater, Studio Я 

الزمان: 3-4 شباط/فبراير الساعة 20:30

           1-2 نيسان/أبريل الساعة 19:30

حوار سعاد عباس

 

اقرأ أيضاً

“هيكل عظمي لفيل في الصحراء”.. غداً في برلين

“ذاكرة باللون الخاكي”.. فيلمٌ عن الخسارات والغضب

“استثمار اللاجئين” فيلم عن الجانب الآخر للترحيب الأوروبي

سورمانيا راديو عربي-ألماني وأصوات ممزوجة بالحنين

ألمانيا، خطاب الكراهية.. ونحن

الحكم بالسجن على أبوين أهملا طفلتهما وعمرها أيام فقط.. لتعضها الجرذان