in

سوف أروي – عن الحرب إقليم الموتى

رغدة حسن. اشتغل الشعراء و الكتاب بوجدانية عالية في محاولة منهم لتوصيف المشهد، مشهد النزوح، غبار الركام القابع على صدر البلاد، مشهد القتل بخناجر الاحتلالات المتوالدة المتكاثرة، خناجر مستوردة وأخرى وطنية، محلية الصنع.

وشهدت الساحة أقلام كثيرة وأصوات تحاول أن تخط لون الوجع السوري بحبر القهر الذي يفتك بهم.

والسؤال الذي يوقفنا بعنجهيته المستفزة:

لماذا فشل السوري في اصطفافاته أولًا، ثم في التعبير فنيًا وأدبيًا عن هذه الاصطفافات لاحقًا؟

لطالما ظهرنا في محاولاتنا للإجابة عن هذا السؤال، كدوران القط حول نفسه لاحقًا بذيله.

وبينما أنا غارقة بمراقبة ال تسونامي الذي يهدد الاقتصاد العالمي على خلفية تراجع الدولار بطريقة مخزية، وعالقة في مقالات عن فيزياء الكون الحديثة، وسعي حثيث للعلماء في البحث عن فيزياء جديدة، قد أجد فيها مفاتيح لخزائني القديمة، انتشلتني أصابع شابة، مضاءة بألق بهي، أعادت لروحي تلك الهناءة المنتظرة.

قال لي: سوف أروي.

لكم استوقفني العنوان حين أرسل لي مخطوط روايته، فكرت بحجم الأهوال التي عبرها، ليُقدم على كتابة رواية تحمل هذا الاسم.

قال لي: هي الحرب، يمرّ الوقت معها مكثفّاً، مصنوعًا من موت وأشلاء وبقايا قلوب يستبيحها الخوف.

“هي الحرب، أو الأزمة كما يطيب للكثيرين أن يصفها، تشبه الآلهة، وكل ما ليس له تفسير منطقي يُنسب لها دون الحاجة للتفكير، سبحان الأزمة”

والحرب، حفارة القبور الماهرة، كثيرة الأذرع، وحيدة الوجهة والهدف.

تحصد الغابات بغبار البارود، وتلهث وراء أي أثر لوني، على شفة عاشقة، في قلب الطفولة، في كتب الحالمين  ومواقد الأمهات، تحوّل بما ملكت من أذرع كل شيء إلى رماد قاتل.

تروّض الريح لتنشر سمومها، تتآمر مع البحر لنغرق أكثر في ملح القهر، تُعمل نصالها في أوردة الحياة وتقطعها دمعًا وحسرات قاتلة.

الحرب ” طاحونة” اللحم  والأمل، بشفراتها المصقولة على عتبات الوعود الإلهية القديمة والحديثة.

الحرب المجنونة بهيستريا الكراهية الحاقدة، تقتل الجهات والأبعاد لتنصّب الموت سيدّا أبديًا على عالمنا.

روتين الموت هو جهة الحرب الوحيدة، تتقدم باتجاهه بكل عناد، لا ترضخ لشفاعة، ولا تلين أمام قلب.

تدق إسفين الكراهية في ظهر المدينة، تشل عمودها الفقري

وتنسل لتعلق في زوايا الساحات مفخخاتها.

تبتلع ماء البلاد، تقذف به إلى مجرة بعيدة، يتشقق وجه الأرض وتموت أسماك الأحلام.

زراعة الموت، مهنة تطورها الحرب في كل خطوة من مراحلها المدروسة بدقة.

وحين تسوي الأرض وتمهدها كما يليق بالخراب والموت والعدم، تنتقل للسماء.

يصير للحرب أجنحة، تحاصر السماء وتمحي أزرقها وأمنيات الأطفال المقيمة قرب سحر مجاهيلها.

أول ما يفكر به الإنسان إذا باغتته حرب ملعونة، محاولته لحماية روحه وقلبه وحواسه بدرء طوفان الخوف والرعب الذي يصيب كل ما تصل إليه موجات جحيمها.

يختبئ في أقبية الذاكرة، حين تتسكع الحرب في الأزقة معربدة، تصول وتجول لتغتال أي حركة قد تشعر بها.

ما يدفع جنون الحرب لنسف نبع ذاكرة البلاد، ابتلاع الطرقات والجسور، الأوكسجين والنسغ في كل ماهو حي.

قد استفز حفيظة أحدهم حين سأقول أن القديسين  الذين كانوا وكلاء الآلهة، غادروا عالمنا منذ أول حرب عرفها التاريخ.

أما الشياطين فقد خجلت بالضرورة من قصر حربتها أمام جنوح البشري للشر، وولت إلى غير رجعة، فقد تفوق عليها صنّاع الحروب، وتجاوزوا مخيلتها في ابتداع أساليبًا متفوقة للتدميروالقتل.

حين يتم تفريغ الأمكنة من حياتها، يكتشف الغباء البشري، بأن لا منتصر في الحرب سوى الحرب ولا لواء سيعلو فوق لواء الموت.

في لحظات الضعف قد نلجأ لأن نودع قلوبنا في حافظات ضد التشوه، وحين يتوقف شره الحرب عن سفك الحياة، نكتشف أن أول ما استهدفه العطب هو تلك القلوب.

إذ لن يعلو إلا صوت السفلة، ولن يحكم إلا القتلة، ولن يحمي خزينة البلاد سوى قطّاع الطرق.

لن ينجلي غبار الخرائب بعد لوثة الحرب بهنيهة، سيكون علينا استبدال حواسنا لنتمكن من إدراك الأبعاد الجديدة التي خلفتها وراءها.

هناك من قال: بأن الحرب كارثة، يستخدم فيها البشري أفضل ما لديه، ليُلحق بنفسه أسوأ ما قد يصيبه.

فهل سينجو من احتفظ بقلبه في زمن الحرب؟؟

هذا ما وصلني من رواية الشاب – علي أحمد – سوف أروي.

روى ليحتفظ بقلبه خارج الاصطفافات القاتلة، وزرع في قلب الأرض نباتًا لا يموت.

اقرأ أيضاً:

قراءة في كتاب: “لم أتمدد يومًا على سكة قطار” لأحمد باشا

أحلم أن أنتخب

سهرات موسيقا ثقافة وفن في ختام الموسم العربي في برلين