in ,

النجاة من موتين وأكثر

اللوحة للفنانة رؤيا عيسى

خارجًا من الفراغ الجديد، كمولودٍ بدأ حياته للتو، لست وحدي بل آخرون حولي يحاولون بدء حياةٍ هنا. كنا معاً في “الكامب”، وحين غادرناه لم تكن المصاعب قد انتهت، بل لعلها بدأت.

كانت سهى، شريكتي في السكن، أول من واجهتني بحقيقة ألمي حين وضعت إصبعها عميقاً في الجرح. قالت إنها كلما بدأت حديثها بالقول: “أنا من سوريا”، التفتت إليها العيون، ضاقت قليلاً وخفت بريقها، يسألونها عن مدينتها هل دمرت، عن من مات من أهلها، وهل جاءت بالبحر.

وتنتهي سهى بانتهاء الحديث، فهو كل شخصيتها الآن. ترتعش، وترتعش الجمل التي كتبتها وحفظتها طوال الليل في محاولة بائسة لتعبر عن نفسها. الخجل.. ليتها رمته أيضًا في البحر.

تنكمش على نفسها، فهذه الجمل تختصر معظم ما تعلمته باللغة الألمانية، وتضيق بنظرات اللطيفين المشفقين، حتى يكاد قلبها ينعصر من ضغط ضلوعها. ويصمت الآخرون، فبالنسبة إليهم أيضًا انتهى الحديث، لا شيء أكثر إثارة للاهتمام من قصص الموت والنجاة.

عن الحب، انسحبت ابتسامةٌ على طرف خدها، حين قالت “كيف أحب الآن؟ من سيحبني وأنا ما عدت حتى أحب نفسي، كان شكلي مختلفًا قبل الحرب، لم تكن ندبة الخوف تقلص عضلات وجهي كما الآن، كانت لي ابتسامة وبريق في العينين. وأحلامٌ وذكريات. وحين عبرت البحر، رميتهم كلهم في قاعه حتى لا أغرق. فلم يبق مني سوى عينين قاتمتين، وجفن يرتجف حين يحدق بي أحد. حملت معي فقط قلق سبعةٍ وثلاثين عامًا”.

كيف تستطيع امرأة تعلمت أن البوح بالحب أخطر من ارتكابه، أن تفخر بعذريتها لا أن تخجل بها، كيف لها أن تحب هنا؟

“أحببت بصمت في بلدي، دون اعتراف دون لمسات، تبادلنا قصاصات الورق، رسائل حب قصيرة سرية، من النوع الذي يجب أن يمزق بعد أن يقرأ. تباعدنا، وانتهت قصة حبي دون أن تبدأ.

في ألمانيا قاربتُ الحب، اختبرت شعور أن يلمسني رجل، يقبلني، يتيح لي أن أتلمس الغيوم بأطراف أصابعي. ثم تركني، لأنني لست امرأةً حرة، مليئةٌ بالعقد، متطلبة، وأريد التزامًا. أكثر ما أدهشني أنه ادعى أنه يفهم خلفيتي وشرقيتي ويحب غرابتي واختلافي، ثم هجرني للأسباب نفسها”.

أيمن:

أيمن، كان أكثرنا انكسارًا ووحدة. هرب بعد أن خسر معمله وبيته، وكل ما جناه طوال أربعين سنة في حلب، بقيت والدته وشقيقته في تركيا، وجاء هو وحيدًا إلى ألمانيا:

“اعتقدت أنني عبرت في رحلتي بكل احتمالات الرعب، وأنها انتهت لحظة وصولي إلى ألمانيا. لكن مرحلةً أخرى بدأت، أضافت على خسائري شعور الخزي في الكامب. غادرته محملاً بوصمة المهزوم وبضبابية السنين الآتية. كيف أرمم نفسي، بعدما تحطم ما فخرت به في حياتي، كنت أدرس أعمل أعشق أغازل، وتبتسم لي الجارات والصديقات، كنت غنيًا بابتساماتهن. كان لي حاضر وماضي، وكل العمر الآتي. أريد أن أستعيد كل هذا. أن يراني الآخرون أكثر من غريبٍ أو متسول طامعٍ بإقامة ونقودٍ بلا تعب.

أريد أن أستعيد وجهي وذاكرة الحب ، أن أتعلم الغزل بهذه اللغة الغريبة، أن أقول لامرأةٍ “ويلاه ما أجملك” لا رديف لهذه الكلمة في الألمانية، فهي تحمل الدهشة من الجمال حد وجع القلب، الحب من حيث أتيت رديف الألم. كيف أغازل دون أن أغني مواويلي الحزينة؟،  كانت أمي تقول إن صوتي حنون كالناي، هنا لا يعرفون الناي ولا قصائدنا البائسة.

أريد أن تسمعني تلك المرأة الغريبة التي تحمل في رأسها مئة فكرة عني لا تشبهني، أن تدرك أنني أعرف أحلى كلام الغزل، وأنني واسع كقلبي وكالسماء”.

محمد:

لا يقول محمد عن نفسه أكثر مما يقول يأسُ من رمى خلفه سبعةً وخمسين سنةً من الشقاء. بعد أن ترك الكامب مع زوجته وأبنائه، تعرف على بضعة أزواج لطيفين في القرية التي يعيش فيها، حدثني عنهم بامتنان:

“يساعدوننا بكل طاقتهم. يخبروننا الكثير عن البلدة وعما يجب أو لا يجب فعله، ما يحبونه وما يكرهونه كألمان، تفاصيل وتفاصيل استسلمت بها لحالتي كمتلق.

لكنني أريد أصدقائي، أولئك الذين كبرت معهم. وراء عمري عمرٌ من الذكريات، ما عدت أقدر أن أشرح نفسي وأعيش من جديد قلق التقبل والمحاكمات، كيف أشرح لهؤلاء الذين استقبلوني بمنتهى اللطف أنني أكثر من مشروع خيري.

أريد أن أخبرهم أنني درست في الجامعة، وكنت يومًا معلمًا، لكنني الآن لا أستطيع تهجئة كتابي المدرسي. أريد الحديث عن أحبائي كيف عاشوا، ثم ماتوا أو فُقِدوا أو حوصروا، أو فرقهم الشتات حتى داخل الوطن. أريد أن أشتكي أن أبكي دون حاجةٍ للاعتذار، ودون قلقٍ من الدرجة التي سيصبح فيها حزني مملاً”.

صفاء:

أما صفاء، فتتألق بأعوامها العشرين، لا يقلقها الحب، فهي تعيش مع صديق ألماني له قلب رشيق كقلبها الذي عبر معها حدود البحر والإهانات. تطالب الألمان بأكثر من تعاطف من سمع عن حرب سوريا في الأخبار. تريدهم أن يفهموا لمَ هي مع طرفٍ دون آخر. تحمرّ وتزرق بحثًا عن الكلمات الألمانية والإنكليزية التي تدعم ثورتها.

وتقول ببعض الحسرة “عبرت كل ذاك الموت لأحيا هنا. ثم اكتشفت أنني خرساء، وعلي الآن أن أتعلم النطق لأجد لي مكانًا. وها أنا أتعلم، الوقت متسع كالمدى، سيكون لي أصدقاء، سأتغير قليلاً لأفهمهم وليفهموني”.

وداد:

وداد في بداية ثلاثينيّاتها، كانت مهندسة، كان لديها زوج وبيت وبداية حياة، لكن كل شيء احترق منذ ثلاث سنوات. نادرًا ما تتكلم، لكن عينيها تعكسان كل ما تبقى في قلبها من حب، كي تخفي ما دفنته فيهما من ألم:

“الناس هنا لطيفون، عيونهم مشعة، وأنا بينهم غير مرئية، أعبر الطرقات لا أحد ينظر إلي ولا أحد يراني، لا أجرؤ على النطق حتى لا يسمعني أحد فيكتشف اغترابي”.

تقول عن المتطوعين الذين ساعدوها في المخيم أنهم أصدقاؤها، لكنها لا تعرف عنهم إلا الاسم الأول، عدد أطفال إحداهن، زوج أخرى. ويعرفون عنها فقط ما أرادوا معرفته، يحبون طبخها وقهوتها، لا شيء أبعد لا شيء أعمق.

تحمل حنينًا لا مجال لشفائه، وخجلاً من كل ما لا تعرفه في الحياة، تبحث عن كل شيء، اللغة، الدراسة، العمل. لم تتجرأ بعد على الحب، لا تعرف كيف ستكون البداية لكن عينيها تدوران في المكان بقلق وتقول، سيأتي.

 

تم نشر هذا المقال لأول مرة باللغة الألمانية من قبل تسايت أون لاين “ZEIT ONLINE”، للاطلاع على النص الأصلي: Vor dem Krieg war Liebe

شرطة برلين ترفع حالة التأهب في المدينة إلى الدرجة القصوى

الاتحاد الأوروبي: فحص أمني عبر الإنترنت للأجانب الذين لا يحتاجون تأشيرة