in

متى سأعتبر نفسي ألمانيًا؟!

قيس مصطفى*

قبل أن تندلع الحرب، كنت أشاهد حشدًا من الشباب أمام معهد غوته في دمشق. وكنت أتساءل: لماذا يقوم هؤلاء بإرهاق أنفسهم بتعلّم اللغة الألمانية. هل يعتقد هؤلاء أنهم سيحصلون على فيزا إلى ألمانيا؟! أنا كنت أذهب إلى المعهد إذا كان هناك معارض فنية أو حفلات أو عروض سينمائية، أي على كل ما هو مترجم أو ما لا يحتاج إلى ترجمة. لاحقًا، تذكرت أني كنت أتعلم الانجليزية، دون أن أفكر بالذهاب إلى أي من البلدان الناطقة بها.

أمضيت السنوات الثلاثة الأخيرة قبل قدومي إلى ألمانيا محاصرًا في إحدى المناطق الملتهبة في ريف دمشق، مخيم للاجئين الفلسطينيين أقيم جنوب العاصمة السورية دمشق في منتصف الألفية الماضية. في البداية ذعرت من رصاص الكلاشينكوفات، ثم اعتدتها، ومن ثم كنت أصاب بشحوب مدمّر عندما كانت تنهال قذائف المدفعية والهاون على منازلنا، وأيضًا اعتدت القذائف، كالآخرين. إلى أن جاء الشيء الذي لا يمكن اعتياده نهائيًا. صواريخ تطلق من بعيد تنزل على الرؤوس على غفلة، ومروحيات الجيش السوري التي تلقي البراميل المتفجرة عشوائيًا وجزافًا. شخصيًا نجوت مرتين من أن أتحول إلى أشلاء في إحدى غارات الطيران هذه وثلاث مرات نجوت من قذائف الهاون التي انفجرت على بعد أمتار مني، ولن أنسى اليوم الذي استهدف فيه بيتنا بقذيفة هاون. يومها مُلئت قلوب العائلة ذعرًا وانثقب سطح منزلنا المؤلف من طابقين. الطابق الثاني ليس مجهّزًا للسكن، حيث نربي على السطح عددًا وافرًا من الدجاج والإوز تحسبًا لحصار قد نهلك فيه جوعًا. شاهدتُ أمي تشكر الإله وتركع مقبلة الأرض لفرط سعادتها لنجاتنا، وعندما نظرت إليها شزرًا وطالبتها بأخذ أخوتي الصغار ومغادرة المخيم الفلسطيني متعجبًا من هذه اللحظة الإيمانية فوق أكوام الغبار والزجاج والاسمنت المنهار، لم تتأخر بإجابتي بأن قالت: اخرس. صراحة استخدمت عبارة أكثر قسوة هي: “كول خرا”. في تلك اللحظة السينمائية القاسية، ولشدة العجز تتمنى أن تبيع نفسك للشيطان أسوة بالدكتور فاوست في رائعة غوته المسرحية بالعنوان ذاته. أريد لأي مفيستوفيليس أن يشتريني ولا أريد النجاة من صفقة كهذه، لأنه لم يعد هناك مكان لأي ملاك في هذا الشرق.

 لم تمت في هذا القصف إوزة واحدة من إوزات السطح، لكن ماتت دجاجات كثيرات بعثنا ب[highlight][/highlight]هن إلى الكلب الذي يربيه جارنا. يومها تناقشنا كثيرًا في مهارة الإوز في استشراف المستقبل. مزحت يومها وقلت: على الجميع أن يربوا إوزًا على السطح. طبعًا الفكرة غير مجدية في الدفاع المدني، لأن الإوزة تتصرف قبل ثوانٍ من سقوط القذيقة، وليس بمقدورها إنذار أحد. الحصار هو فعليًا وعلى وجه الدقة ما اقتنعت أنه أحد الأشياء التي يرمي إليها كافكا في قصته الرائعة “التحوّل”. فعندما تكون محاصرًا تكون تمامًا كائنًا ممسوخًا، وحشرةً مقلوبةً على ظهرها ومذعورةً من مواجهة أي شيء. وعمومًا فإن كافكا موضع اهتمام كبير في الثقافة العربية، كما أنه دائمًا وارد الذكر حتى في الأحاديث اليومية والاستشهادات بين المثقفين. أما مداخلتي بشأن الوظيفة الجديدة للإوز، فقابلها شقيقي الأصغر بسخرية. أتذكر يومها أنه قال: “اضحكوا له.. نكتة مثقفين!”.

محاولات عديدة للفرار من هذا الحصار باءت جميعها بالفشل إلى أن قررت المجازفة ونهائيًا بحياتي في قصة خروج ماراتونية من سوريا سأحتفظ بها لنفسي الآن، إذ وعدت نفسي أن أحول هذه الحكاية إلى سيناريو فيلم روائي أو رواية على أقل تقدير ساعةَ أبرأ من كسلي. المهم أني كنت قد جمعت في سنوات ما قبل الثورة عددًا كبيرًا من الكتب التي لم أكن قد قرأتها بعد. كنت أقتنيها وأترك القسم الأكبر منها بدون قراءة، لشحّ الوقت، ولأنّ دمشق في زمن اللاحرب، شديدة الإغراء، وأنا بطبعي من أنصار التسكع والتدخين والبيرة والمشاوير والسهر، وكان عملي في الصحافة، ووجود أصدقاء طيبين يشاركوني هذه المناصرة، سببًا في الاستغراق بالعطالة وعدم الإنتاجية العالية إزاء النص الشخصي بعيدًا عن المواد الصحفية التي ما يلبث القراء أن يتناسوها، وأنساها أنا قبلهم. ولما فرغت من قراءة كتبي المؤجلة، كنت أستغلّ الساعات القليلة التي يتوافر فيها التيار الكهربائي من أجل تحميل بعض الكتب الإلكترونية التي كنت أرفض التعامل معها بتاتًا. طبعًا تتيح المواقع الإلكترونية الكتب المطبوعة في سنوات قديمة. وفي هذه الحالة إما أن تكون الكتب خارج دائرة الاهتمام أو أنها كتب ردئية، أو أنها كتب كنت قد قرأتها سابقًا. قررت أن أعيد قراءة تحول كافكا، وفاوست غوته، وهذا ما حصل، ولما بدأت حمى الهجرة القسرية إلى أوروبا، وأصبحت ألمانيا عنوانًا للجوء القسري للسوريين، حاولت أن أبحث في مكتبتي عن أي ألمانيات تذكر، ووجدت كتاب “النظرية النقدية، مدرسة فرانكفورت” وكنت قد أجريت مطالعة عنه في الصحافة السورية، ووجدت ديوانًا شعريًا لافتًا لا أملك الآن إلا عنوان ترجمته بالعربية “حرب على الأكواخ سلام على القصور”، وبالتأكيد الكتاب الذائع الصيت في المكتبات العربية “هكذا تكلم زرداشت” لفريدريك نيتشه وأشياء لهيرمان هسه، أما الماركسيات، والمجلدات الحمراء جدًا، فكنت قد تخلصت منها منذ زمن بعيد.

اليوم أنا في ألمانيا، وأتعلم الألمانية ببطء شديد. لا شكّ أني كنت أودّ أن آتي هذه البلاد زائرًا أو سائحًاـ لا لاجئًا، وبالتأكيد نادم على تساؤلي الفج عن رغبة كثيرين بتعلم الألمانية. وباعتباري أنتمي إلى كل أرض أكون فيها بشكل ما، فإني متأكد أني لن أكون كامل الانتماء إلا في ذلك اليوم الذي أكون فيه قادرًا على قراءة فاوست بالألمانية.

* شاعر فلسطيني

في انتظار الصندوق

المساواة أمام القانون وحظر التمييز في الدستور الألماني