in ,

قراءة في كتاب: “لم أتمدد يومًا على سكة قطار” لأحمد باشا

نيرمينة الرفاعي.

“وداعًا، قالتها ومَضتْ إلى داخلي”..

هكذا كتبَ أحمد باشا في الصفحة الرابعة والخمسين من كتابه “لم أتمدد يومًا على سكة قطار”، وهو الكتاب السادس الصادر عام 2014 عن الرابطة السورية للمواطنة ضمن سلسلة شهادات سورية.

لا أعلمُ لمَ استفزتني الجملة في منتصف الكتاب لتكون كنقطة بداية، كمفتاح للدخول إلى الكثير من المشاهد التي وردت بزخم ضمن السرد المتحوّل بين السرد والشعر ناقلاً لنا تفاصيل “البلاد التي يتسع ظلها كرجل لا ملامح له، يبتعدُ مبتسمًا عن مصدر الضوء”.

في ملاحقة الجمل القصيرة الكثيفة التي لمعت كومضات فلاش الكاميرا يستطيع القارئ أن يتنقل بسرعة بين “الكراج” الذي رسمه أحمد الباشا بخطوط عريضة على شكل:

الأطفال ماسحو الأحذية/بائعو اليانصيب/الطعام الملوّث/البسكويت الرخيص/مصطنعو العاهات/العاهرات الرخيصات/سجائر السائق العصبي/شاشة التلفاز الصغيرة في الباص، واصلاً إلى حلفايا في حماة وملعبها الخشن الأرضية والأطفال الذي يركضون بين عوارضه الملوّنة بأحذيتهم الدافئة.

تحاصرهُ المدينة، يرى في خياله طفلاً يمشي بين الإشارات دون أن يبيع الورد، هو لا يفعلُ شيئًا سوى الانتظار، تمامًا كما ينتظر السجين في الزنزانة المنفردة وهو يحاول حفر الجدران بانفاسه.

ولأنه يقول إن السوريين لا يروون التاريخ بل يرتّلونه، تتلاحق جمله مجدّدًا وهو يصف دون كثير من الشرح: علب تبغ/عبوة ناسفة/عاشق عابر/اختناق مروري/بزّة عسكري/قهوة من دون رائحة/مسدسات فارغة/وموت. يبدو أن ما يسبق الموت لا يحتاج إلى كثير من الشرح.

“ينتعل لسانه ويسير وحلاً”، هكذا يمشي الكاتب بين السطور، يقول أحمد الباشا: “المشي في أرض موحلة يلطخ جبيننا فقط”، ثم يصل إلى الماء دون أن يرتوي لأن “الوحل يكسو البحر”. يصعدُ على عنق الحبيبة في محاولة للنجاة فيقول: “عنقها مساحة أخرى لالتقاء السماء بالبحر”.

ذاكرته مليئة “بالحكايات التي أغلقت أبوابها”، وبالذين غادروا “كالغيم كالماء، دون أقدامهم”، تلاشوا دونما انتماء ولا حتى لصوت الخطى الأخيرة، وتلاشت معهم حكايته أيضًا، يقول: “أنا تبغ الراحلين”، و”تنمو ابتسامة طفل في قصيدته الموجوعة”، ويرحل.. يبدو أنَّه لا تَلزم الأقدام للرحيل أحيانًا!

وفي الوطن الذي يرشح سقفه دمًا يطلقُ الكاتب رصاصاته الطائشة محاولاً خلخلة مفاهيم الزمان والمكان، كنخلة تحاول أن تكسر رتابة الصحراء، أو كأحياء يمشون على أطراف طريق مليء بالموتى لأنهم لا يرغبون بالموت فرادى.

يطغى اللون الأبيض على السطور على الرغم من كل شيء..

يتحدّث عن بياض العيون، وكأس العرق الرخيص وإجهاض الزوجات اليومي وقسوة الفقراء، عن الصحارى البيض في دواخل النفوس المتعبة، ويكفّن الشهداء الذين عرفَ عددهم ولم يعرف حجم أحلامهم بالقصائد والورق الأبيض، وينتهي أخيرًا إلى من وصفها بأنَّها بيضاءُ أوضح من كلّ خساراته، البيضاء التي “لا تحفظ كلام الله ولكنّها صوته ورائحته”، أمّه التي كلّما نظرَ إلى الأعلى رآها فأغشاه البياض وغمره الله.

تستمر اللغة في الانهمار على الورق الأبيض “كأنهار تأبى الركود على شفاهنا”، هكذا وصفها أحمد الباشا ثم استمرّ في ملاعبة الأطفال الذين يرتّبون حجارة القبور في مخيلتّه التي تتسع لتصبح بحجم المقبرة.

وعلى الرغم من وضوح صوت جدّته التي قالت له يومًا: “كن ميتًا تحتوِيك المقبرة”، إلّا أنَّه يحاولُ جاهدًا ألّا “تنثني النوارس عن تحليقها وألّا تنتهي رئته”، يحاول الانعتاق من تعويذة الطين التي تحاصره ضمن مجازها الذي وصفه “بالاختناق المزمن”، يطيرُ قلبه مع الريح ويناجي الحبيبة بعيدًا عن المقبرة فيقول: “ثبّتي جفنيك قليلاً، مللتُ الخطأ في عدّ النجوم”.

لم يتمدّد أحمد الباشا على سكّة القطار يومًا و”لكنَّ الصفير كان قويًّا لدرجة أنَّه لم يشعر بالموت”. لن تترك هذا الكتاب إلّا والصفير يملأ أذنيك ويذكّرك بأنَّ كلَّ هذا اللاصمت في المدن الجميلة المحاصرة قد يكونُ كصوت الخطى الراحلة، مجرّد انتماء أخير.

%d8%b5%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af%d8%a9-5

تواصل مع الوطن والعائلة والأحبة، مع أورتيل .. نحن نتكلم لغتك

برنامج التوجيه المهني: يجيب عن أسئلتك حول العمل في ألمانيا