in

ملوخية.. أم ملوكية؟

ملوخية
ملوخية

إعداد جان داود
في أواخر الصيف من كل عام، كانت الجارات في حارتنا يقمنَ احتفالاً كبيراً -بالنسبة لهن في ذلك الوقت-حيث يبدأ الاحتفال في الصباح الباكر في سوق الخضار الممتد على طول بضع كيلو مترات من الحي، حيث أكوامٌ هائلة من أغصان الملوخية المتراكمة فوق بعضها تعيد تشكيل السوق هندسياً.

أمي والجارات يتجولن بسعادة ويتنافسن على أكبر وأفضل كومٍ من هذه الأغصان اليانعة من ستحصل عليها قبل الأخرى، ونحن -صغارهنّ- نركض في كل اتجاهات هذا السوق الملون المليء بالأطايب، منها ما هو في المتناول ومنها مالا قدرة لأمي أو لغيرها على شراءه.
كخطٍ من النمل نمشي كلٌ خلف أمه، وأغصان الملوخية تتدلى من ظهورنا لتلامس الأرض في مرات عديدة، والجميع متفقٌ على أنه لا بأس ببضع أغصانٍ تسقط على الأرض، وكأنها واحدة من معالم زينة هذا المهرجان الأخضر.

ثم تبدأ المراسم..
جميع نساء الحارة بدون استثناء، يفترشن الأرض أمام أبوابهن على حصيرة مصنوعة من البلاستيك الملون وأحياناً من القش، وأكوام الملوخية تشكل سوراً حول كل منهن. رئحة القهوة تعبق في الهواء من مدخل الحارة.
ويبدأ القطاف..
كنا نمضي اليوم بأكمله في هذا المهرجان السنوي الذي لم يكن مقتصراً على حينا في مخيم اليرموك، ولكنه ” كما اكتشفت لاحقاً”، كان يمتد على طول الأحياء الشعبية في أغلب البلاد العربية ولكن بطرق حميمية مختلفة.

اقرأ/ي أيضاً: أمي وأمها.. حفلة المكدوس وأنا

لم أعتقد يوماً أني سأكتب مقالاً عن هذا النبات الغريب بطعمه ورائحته، حتى هذا اليوم بعدما انتابني الفضول لأقرأ عنه وأبحث في مزاياه وفوائده وأصوله التاريخية. وإليكم ما الذي توصلت له:
اكتشفت الملوخية في مصر، وكان لها تاريخ طويل في القصور الملكية حتى وصلت لموائد العامة، فهي «معشوقة المصريين»، يكاد لا يوجد مصري لا يحبها، أو تذوقها ذات مرة بجانب طبق الأرز أو مغموسة بالعيش “الخبز”، أو تناولها كشوربة، فهي طبق أساسي على المائدة المصرية. كما أنها من الأكلات المفضلة في كثير من البلدان خصوصاً السودان ومصر وبلاد الشام والمغرب وتونس والجزائر.

فما هو أصل الملوخية وتاريخها؟ ولماذا تعد «الشهقة» المفتاح من أجل الوصول لطبق على الأصول؟

الملوخية هي من النباتات الزهرية «الزيزفونية» التي تضم من 40 إلى 100 صنف، تختلف في طول العيدان، ولها أزهار صغيرة صفراء. تستخدم الأوراق فقط في عمل طبق الملوخية المعروف.
تُزرع في الطقس الدافئ، حيث لا تنبت بذورها إلا في درجات حرارة عالية، ويتم قطفها بعد 3 أشهر من الزراعة في المواسم الباردة عندما تصل إلى حجم مناسب، أما في المواسم الدافئة يتم قطفها بعد شهر ونصف إلى شهرين من الزراعة، وتحتاج كمية كبيرة من المياه لذا يجب مراعاة عدم جفاف التربة بعد الزراعة حتى الإنبات، ثم تروى حسب الطقس السائد ونوع التربة لانتظام نمو النباتات وجودة أوراقها.

في مصر وبعض المدن المطلة على حوض النيل، تحضر الملوخية بأكثر من طريقة، في القاهرة مثلاً تطبخ بعد خرط الأوراق بشكل ناعم وتكون ذات قوام خفيف، وفي الصعيد والواحات يفضلون الملوخية «المجففة» الأكثر تماسكاً، وفي النوبة تطبخ بدون خرط ويضيفون لها بامية ناشفة، وتفرك بالمفراك. للصعيد طريقته الخاصة في عمل الملوخية، والتي تحضر «على البارد» وبكمية كبيرة جداً من الشطة ويطلقون عليها اسم “شلولو”.

ولتاريخ تسمية الملوخية بهذا الاسم روايتان..

  • الملوخية عند الفراعنة:
    الرواية الأولى تقول إن قدماء المصريين عرفوا الملوخية، بعد أن وجدوا أوراقها تنمو على ضفاف النيل، ولكنهم لم يقبلوا على أكلها لاعتقادهم أنها نبات سام وكانوا يسمونه «خية»، وعندما احتل الهكسوس مصر أجبروا المصريين على تناولها، لإهانتهم وإذلالهم بتناول النبتة السامة، وكانوا يقولون لهم: «ملو- خية»، أي (كلوا) (خية)، وبعدما تناولها المصريون ظناً منهم أنهم ميتون لا محالة، اكتشفوا أنها غير سامة وأنها تصلح للأكل، وتناولوها فيما بعد بطرق مختلفة.
  • الملوخية عند الفاطميين:
    الرواية الثانية يعود تاريخها إلى الفاطميين في مصر، حيث كان الحاكم الفاطمي المعز لدين الله يعاني من آلام شديدة في المعدة، فوصف له الأطباء الملوخية كعلاج يقضي بدوره على هذه الآلام، وبالفعل شفي بعد أكلها، فأراد أن يحصر تناول هذه النبتة عليه وعلى حاشيته فأطلق عليها اسم «ملوكية» أي أنها أكلة خاصة بالملوك فقط.
    وعلى نهج المعز لدين الله جاء الحاكم بأمر الله لحكم مصر، وأحب «الملوكية» حبًا شديدًا، وكان المصريون قد سمعوا عن هذا الطبق «الملوكي» وتطلعوا إلى أكله، فأشاع الحاكم بأمر الله بين المصريين أن هذا النبات سام حتى يبتعد عن تناولها عامة الشعب، ويستأثر بفوائدها لنفسه، وكانت «الملوكية» تزرع في حديقة القصر.

اقرأ/ي أيضاً: عن الدبس بطحينة وشياطين أخرى

أما قصة الشهقة الطريفة، فيُروى أنه ذات يوم كان الحاكم يشرف على طباخه وهو يعد له وجبته المفضلة فسقطت الملوكية وهي ساخنة على قدميه، فثار وغضب الحاكم وخرج شهيقه بصوت عال خوفاً من سخونة السائل. وقرر بعدها أن يسمح لعامة الشعب بتناول «الملوكية» فأصبح لها مكانة كبيرة عند المصريين، وعندها قرروا أن يرجعوا تسميتها إلى ما كانت عليه في عصور الفراعنة فعاد اسمها «ملوخية»، وبما أن مصر إبان حكم الفاطميين عرفت الكثير من الأكلات والاختراعات والإضافات ذات اللمسة المصرية فقط، فكر المصريون في إضافة «تقلية» الثوم إلى الملوخية، وبالفعل ارتفعت مكانة الملوخية بالتقلية.

سر “الشهقة”

أغلب النساء المصريات يحرصن على إخراج شهيقهن بصوت عالي عند إضافة «تقلية» الثوم إلى الملوخية، ويعتقدن بكل إصرار أن هذه «الشهقة» هي سر الملوخية اللذيذة “لا تسقط في الحلة”، ولهذا المعتقد العديد من الأساطير:

  1. الأسطورة الأولى: كما ذكرنا سابقاً هي «شهقة» الحاكم بأمر الله، حيث اعتبر المصريون «الشهقة» أمر إيجابي حيث أتاحت لهم الفرصة لتناول الملوخية التي انتظروها لسنوات طويلة.
  2. الأسطورة الثانية: تحكي أنه كانت هناك فتاة لا تجيد الطبخ أبداً، وكانت كلما أكل أحد من طبخها، تأفف من سوء مذاق الطعام، وذات مرة كانت تطبخ الملوخية، وعندما همت بإضافة “الطشة” لها، اهتزت يدها وكادت أن تسقط الملوخية ساخنة عليها فشهقت الفتاة، وعند تناول أسرتها الطعام أعجبوا بطعم الملوخية على غير العادة، فسألوها ما الجديد الذي فعلته حتى أصبح الطعام لذيذاً بهذا الشكل! قالت إنها «شقهت» عند إضافة «التقلية» فربطوا اللذة بما حدث.
  3. الأسطورة الثالثة: تحكي أن المطبخ المصري القديم لم يكن فيه البوتوغاز المعاصر، وكانت السيدة المصرية تجلس أمام الحطب المشتعل وتضع عليه أوانيها لتطبخ، وتلتف حولها الطيور والحيوانات التي تربيها في المنزل، وكانت عند حمل الملوخية وإسقاط «التقلية» عليها تصدر صوت شهيق عالي حتى ينصرف الحيوانات والطيور من حولها؛ كي لا تسكب عليهم الملوخية الساخنة.

فوائدها العظيمة

بدايةً تتميز الملوخية بأنها لا تفقد أياً من مكوناتها الغذائية وفوائدها العلاجية بالغسيل والطهو. وهي عموماً غنية بالفيتامينات والمعادن والكربوهيدرات والألياف. وتعدّ من أغنى الخضراوات الورقية بفيتامين(A) ، فهي تحتفظ به حتى عند الطبخ أو التجفيف، كما ثبت علمياً بأن المادة الرغوية (المخاطية) الموجودة فيها لها تأثير ملين ومهدئ لأغشية المعدة والأمعاء كما تكافح الإمساك بشكل فعال لغنى أوراقها بالألياف. وثبت بالأبحاث أنها تساعد على تقوية البصر وتنشيط ضربات القلب وعلاج ضغط الدم المنخفض وهبوط الطاقة والوهن الجسدي. كما تقوي النظر وتزيد الرغبة الجنسية، وتخلصك من قائمة طويلة من الأمراض بدون أية مضاعفات جانبية.

وتحتوي الملوخية على نسبة جيدة من فيتامين (B) الذي يحمي من الإصابة بفقر الدم، كما تمنع تكون حصى المثانة والكلى. وهي من أغنى الخضراوات بمادة الكاروتين بنسبة تفوق ما يوجد بالجزر، مما يزيد مقاومة الجسم للالتهابات والأمراض. كما أن المنغنيز الذي يكثر في “الملوخية” ضروري لتوليد هرمون الأنسولين وضبط السكر في الدم، ويكافح هشاشة العظام ويبعد شبح العقم.
وهي مفيدة للبشرة والجلد، حيث أن فيتامين (أ) يساهم بمنع تشقق الجلد وتقرحه خاصة عند التعرض للشمس، والمواد المضادة للأكسدة في الملوخية تحمي من الشيخوخة. 

نهايةً.. مهدئة للأعصاب

أيضاً بفضل احتوائها على فيتامين أ الذي يساعد في تمثيل المواد السكرية، بالإضافة إلى احتوائها على كمية كبيرة من الحب والحميمية واللطف الذي تضيفه هذه الطبخة العظيمة على أجواء المنزل وعلى مشاعر من فيه، فبمجرد أن تشتم رائحتها من على مدخل بيتك، تشعر أنه لا مجال للتفكير في أي شيء آخر سوى الجلوس على طاولة الطعام بهدوء والاستمتاع قد المستطاع بهذه الوجبة اللذيذة.

على الرغم من أن المثلية الجنسية في بلده تستوجب العقوبة، أسس هادي دميان ما يسمى ببيروت برايد/ فخر بيروت

هادي دميان: كم كان اعتقالي حدثاً مهماً!

سوريا: تعليق "حقوق وامتيازات" نظام الأسد بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية

تعليق “حقوق وامتيازات” نظام الأسد بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية