in

المواطنية العالمية.. حق أم تعاطف؟

حسام أبو حامد

حَرَكيّة السكان وتنقلاتهم، كانت أحد العوامل المهمة في نشوء الحضارات والمدن، قبل أن تُبلور المجتمعات تقاليدها، وترسم الخصوصيات الثقافية، الدينية والعرقية، حدود ثنائية “الأنا – الآخر”، التي تجسدت حدودًا للمجتمعات البشرية قيدت حرية التنقل.

مبكرا بدأ النقاش الفلسفي “التنظير لمفهوم المواطنة”، فالمواطن عند أرسطو على الخصوص هو “مواطن الديمقراطية”، وطالما أن الديمقراطية لا تتحقق إلا داخل حدود الدولة، فإن الكوزموبوليتي (مواطن العالم) ليس مواطنًا. وعكس تقسيمه الشهير للبشر إلى أدوات وذوات، على أساس المواهب الفطرية، “عنصرية إغريقية” تجاه الآخر.

على النقيض من أرسطو، يعلن الرواقي زينون، أن “العالم موطن الإنسان، والإنسان موطن العالم”، والاجتماع البشري عند الرواقيين، بحد ذاته، موافق للطبيعة، يصدر عن جماعة طبيعية هي الأسرة، بامتداد التعاطف خارجها. ليس هناك ما يبرر انقسام الناس شعوبا ومدنا، فهم أخوة، متساوون في طبيعتهم العاقلة. أما التقاليد والعادات المحلّية، فهي عرفية بحتة، لا تتفق بالضرورة مع الطبيعة العاقلة.

وجدت الكوزموبوليتية الرواقية صداها لدى فلاسفة القرن الثامن عشر، فميّز روسو بين “الجميع” و”الكل”. في الأول، تتلاقى إرادة الأفراد حول عقد عقلي خالص. وفي الثاني، يتم الانفتاح على كونية إنسانية شاملة، حين يتجسد هذا العقد في نظام حقوقي يعبر عن الصالح العام. وفي “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” في 1789، تبرز النزعة الكوزموبوليتية بوضوح، لتجد سبيلها إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 1948، وغيره من بنود القانون الدولي، الذي أصبح فيه أفراد المجتمع المدني العالمي يتمتعون بحقوق، لا بوصفهم مواطنين بلد ما، بل بوصفهم بشرا.

رأى الفيلسوف الألماني كانط أنه بتكثيف العلاقات بين الناس، سوف تعزز التجارة الحرة القانون العالمي، بحيث أن خرقا للقانون في مكان ما يتحول إلى حدث يشعر به الجميع. وفي مبادئه التي أعلنها حول السلام الدائم، يدعو أن يقوم الحق العالمي على ابتكار شروط حسن الضيافة (الإقامة الدائمة) العالمية، التي لا تُستمد من التعاطف، بل هي حق لكل الناس، بوصفهم مواطنين بالقوة (بالإمكان) في الجمهورية العالمية. ومن حق الضيوف حسب كانط، ألا يعاملوا معاملة الأعداء، وإن كان لابد من رفض استقبالهم، فعلينا التأكد من أن هذا الرفض لا يعرض حياتهم للخطر، وهو ما سيصبح قاعدة قانونية في اتفاقية جنيف 1951 الخاصة باللاجئين.

دشّنت اتفاقية وستفاليا في 1648 انبعاث عصر القوميات، وانتظامها في دول ذات حدود وسيادة يجب احترامهما. وتم الاعتراف بمواطنة الجماعة العرقية في نظام دولي. لكن كان ينبغي الانتظار حتى الثورة الفرنسية لتبرز معها الدولة فاعلا وحيدا في العلاقات الدولية. لكن تحولات النصف الثاني من القرن العشرين، أذنت بتفكك الدولة القومية، وحلول نظام عالمي مكان النظام الدولي، فنافست الشركات متعددة الجنسيات سلطة الدولة، وأصبحت نشاطاتها الاستثمارية العابرة للقوميات مؤشرات، تفوق في أهميتها مؤشرات النواتج المحلية للدول. ومع الانتقال الحر للممتلكات والرساميل جرى انتقال حر للأشخاص، دون أن يشكل ذلك فضاء مفتوحا، حين اقتصر على أشخاص معنويين، هم ممثلي الشركات وعملائها، بغية توفير كل الفرص الممكنة لزيادة الأرباح وتقليص التكاليف. ونتيجة لتكثيف العلاقات بين الجماعات والأفراد، انطلق مجتمع مدني عالمي.

في وجه العولمة السياسية التي انطلقت في التسعينيات، برزت الكوزموبوليتية في لحظة مفصلية في المشروع الثقافي الغربي. فدعى الفيلسوف الألماني المعاصر يورغين هابرماس إلى الانتقال من الفعل الغائي، إلى الفعل التواصلي، الذي لا يرتبط بالحاجات السياسية والتأثير في الغير، بل بالتفاهم والتوافق الإيجابي دون قسر أو إكراه. ويؤكد أن ثقة المواطنين بأمتهم، وإخلاصهم لها، لا ينبغي التفريط بهما، وإلا قَوّضت سلطةُ الجمهورية العالمية عالم الدولة. وعلى المؤسسات الإقليمية والدولية، وهي تدافع عن الحقوق الكوزموبوليتية، ألا تتجاهل ذلك، وأن تدعم الديمقراطية داخل الدول. إشراك الآخر عند هابرماس، مسالة جوهرية، عبر سَنِّ معايير كونية قادرة على حل المشكلات التي تتخبط فيها البشرية، وتعمق ثقافة السلام بين الشعوب.

خرجت الكوزموبوليتية، لاسيما في ألمانيا، من الأوساط الأكاديمية والقاعات البحثية، إلى فضاء مدني جماهيري أوسع، لتضغط على القرار السياسي بشأن اللاجئين، وتوجهه بعيدا عن حسابات الجدوى الاقتصادية، والمصلحة الوطنية. الكوزموبوليتية المعاصرة لا تكتفي بالوقوف عند حدود التعاطف الإنساني، بل تقف على أرضية عقلانية ترفض، من حيث الأساس، أسطرة الهوية العرقية، التي تؤدي إلى تنميط أصول وثقافة المهاجرين، والنظر إليهم ككتلة متجانسة مقاومة للتكامل. فالمهاجرون لا هوية لهم سوى أنهم سكان العالم، ولا ينبغي لثنائية “نحن- هم” أن تحجب تلك الحقيقة. وأن نماذج الهجرة المعولمة وتغيراتها المستمرة، تؤكد أنه لم يعد بالإمكان النظر إلى الشعب كمعطى نهائي، وأنه ينبغي، داخل نظرية الديمقراطية، البحث عن حلول لمشكلة تكوّن الشعب وحدوده، أكثر عدالة وذكاء، إذ لا يوجد حتى الآن أي إجراء ديمقراطي، يتيح اتخاذ قرار ديمقراطي، حول من يتوجب عليه أن ينتمي إلى الشعب، ومن لا يحق له ذلك..

في الغرب، يدور اليوم صراع بين تيارين رئيسيين، تيار متمسك بثنائية “الأنا- الآخر”، منغلق عرقيا ورافض للاجئين، وتيار كوزموبوليتي يدعو إلى مراجعة “المواطنية” على قاعدة إشراك الآخر. الإرهاب الأصولي يصطف مرجحا كفة التيار الأول.

بالعودة إلى الـ “نحن” الحضارية، فقد عرف الفكر العربي الإسلامي في بعض لحظاته العقلانية والصوفية نزعة كوزموبوليتية، مع الفارابي وابن عربي واخوان الصفا…، إلا أن مواطنية عالمية تغيب عن لحظتيه، الحديثة والمعاصرة. ونحن اليوم معنيون بهذا النقاش حول الكوزموبوليتية، لا بوصفنا موضوعا للنقاش، بل ذاتا تتحمل مسؤولياتها في تعميقه وإثرائه. يحتاج ذلك إلى بلورة خطابنا الكوزموبوليتي، والخروج بدورنا من ثنائية “الأنا- الآخر”.

إن أي مأساة فردية أو جماعية هي دافع قوي للفعل والعمل والإنجاز، ربما ذلك هو وجهها الإيجابي الوحيد. اللاجئون بحاجة إلى تطوير مشاريعهم الاجتماعية، الاقتصاية والثقافية، نتأمل خيرا في بشائرها التي بدأت تلوح في الأفق. فإذا كانت المواطنية العالمية حقا، وليست عطفا ولا تعاطفا، فإنها ترتبط أيضا باستحقاقات متعددة.

لماذا يتزايد عدد النباتيين في ألمانيا؟

بلغاريا تطلب 160 مليون يورو “فورية” لحماية حدود أوروبا من المهاجرين