in

هي البلاد المؤلمة البعيدة

اللوحة للفنانة مروة النجار

خولة دنيا

هذا الكائن الصغير في صدري، ينبض بانقباض، ويقول لي إنه يؤلمني. أعلم أن سوريا في الدماغ، هكذا علموناـ ولكن هذا الكائن المنقبض يبدو أنه لم يذهب معي ليتعلم اللغة الجديدة.
البارحة أيضًا، وكذلك قبل أسبوع، وقبلها أثناء مباحثات جنيف، وفشل أي بارقةٍ لأمل، كان أيضًا يؤلمني بذات الانقباض.
السنة الماضية كذلك، وقبلها بسنة. ربما لم يرقص من الفرح كما رقص منذ خمس سنوات عندما كنا هناك، جميعنا، كنا هناك نحاول أن نصنع الأمل، لكن لم يكن سوى هذا الوجع المتزايد يومًا بعد يوم.

البارحة قصفوا المشافي في بلادي، لم يكن الأسد هذه المرة، إنما حلفاؤه الروس. قالوا إنهم أصابوا أهدافهم، تلك الأهداف التي تصيب قلبي مرة بعد مرة.
أيضًا قالوا إنهم نسيوا تسمية ما يحصل في بلادي، تلك التسمية التي تداولوها منذ بدايات السنوات الخمس هذه التي تشارف على أن تصبح ستة، كانوا يقولون إنها الحرب الأهلية بين قلوبنا نحن السوريين!
ما هي تلك الحرب الأهلية التي لم يبق أحد لم يشارك فيها ولا يموت فيها غير السوريين؟ أعرف لن يجيبني أحد، هم مشغولون في الحرب الآن.
الروس، إيران، تركيا، أمريكا، الميليشيات التي نزحت إلى سوريا باسم الحرب المقدسة. أشعر كلما التقت عيني بعيني أحد هنا، وكأنه يسألني لماذا أتيتِ إلينا؟ ما دخلنا نحن بحرب بلادك تلك كي تصيبنا أهدافها؟ أعرف؛ لا أملك الجواب، هي البلاد التي استقبلتني فقط حين طردتنا كل البلاد.
لماذا لا يعلمون؟ أحيانًا أفكر هل فقدت شعوب الأرض فضولها؟ هل فقد مفكرو العالم قدرتهم على التحليل وإيصال ما يحصل لمن يقرأونهم؟ هل هي معادلة صعبة تلك التي تؤلمني في صدري وتقول لهم نحن هنا لأن الجميع يريد أن يكون هناك؟ لأن مافيات العالم لا تريد حلاً للسوريين حتى الآن؟ وأننا مجرد متلقين للموت والدمار والغربة؟

قبل ذلك كنا نريد شيئًا قليلاً فقط، قليلاً من الهواء والحرية، لم يرد أحد أن يعطينا إياه، بل لم يرد أحد أيضًا أن نطالب به، فنزلوا إلى ساحة القتال جميعًا.
يقولون إن الحروب تنشط اقتصاد الدول المتقدمة، الشركات العابرة للقارات، مافيات السلاح، معامل التشغيل. تستهلك تلك الأسلحة الفاسدة، ويتم تجريب تلك الأسلحة الحديثة، الحرب ماكينة اقتصاد في الحقيقة، وطاحونة أجساد، وبلاد تحولت إلى ساحة تجربة.

أيضًا يقولون إن وراء الحرب ذاك السبب القديم، قِدمَ بلادي، تلك البلاد التي تقع على مصبِّ العالم القديم، وتجمع شرقه وغربه بأحلى انسجام لفصول أربعة يحلم بها من هم في الجنوب ومن هم في الشمال. تلك البلاد التي لم تبق امبراطورية إلا وأرادت أن تكون جزءًا منها، الفرس والأتراك والعرب والرومان واليونان والاستعمار القديم والحديث.

هل نحن بوابة العالم حقًا، حتى يأتي العالم ويحارب فينا؟ أم نحن كفئران الاختبار، كل يوم يتم تجريب مدى صبرنا وقدرتنا على الحياة. أي حياة؟ نحسد من يموت لأنه ارتاح، نتوجع على من بقي ينتظر، ونراقب. نحن أيضًا نحارب بقلوبنا كل لحظة، حتى ينتفخ هذا القلب ويتحول إلى دمّلة، لا تشفى مع مرور الأيام، أحيانًا يحاول أن يُخرج هذا القيح. اليوم في معهد اللغة، وأنا اللاجئة بعد انتظارٍ لحرب لم تتوقف، كان يكفي أن تبدي الموظفة نظرة تعاطف وهي تسألني عن حال بلادي، لتنبض دمعتان صغيرتان على طرفي عيني. فتذكرني بتلك السورية في لقاء رسمي أرادت فيه أن تتكلم في سياسة الدول نحو سوريا، فأجهشت بالبكاء ولم تتوقف، كان قلبها في مكان آخر، حيث خرج أخوها أخيرًا من السجن، وكل خروج من السجن حياة. البقاء على قيد الحياة يبكينا كذلك!!
في الغربة، أقول: نعم سأحاول أن أندمج، ماذا يعني الاندماج؟ سأذهب إلى المدرسة في الصباح وأعود لأطبخ ظهرًا. سأتعرف على البلاد الجديدة وأبني صداقات جميلة. في الصباح لن أسمع الأخبار، تلك التي تأخذني إلى هناك، وتجعلني أؤجل أي فكرة لجديد.

هو جديدي القديم إذن: “أريد أن أعود إلى بيتي، اشتقت إليه”، أقول لصديقي المنفي في باريس، يقول لي: “لم يعد لدي بيت أحن إليه، لقد دمروه، وبلدتي الصغيرة تلك، يريدون دخولها اليوم من محاور ستة”. يا إلهي كم من وجع القلب لديه. لا بيت، لا بلدة، لا بلد، لا حُلم إذن!.
أعرف تمامًا أنه ليس فقط قلبي ما يؤلمني، هي قلوبنا جميعًا تلك التي دمرتها الحرب، ولم تعد قادرة على الحلم بالحرية كوردة ربيع. أصبحنا نحلم بالحياة لمن نحب، بالهروب لمن يقدر، بالطعام للمحاصر. أصبحنا نحلم أن نستيقظ في الصباح لنسأل ذاك السؤال التقليدي: “كيفك، شو عامل اليوم؟” لأنه لا شيء نقوم به سوى انتظار أن تنتهي كي نبدأ نحن أيضًا معها، تلك البلاد المؤلمة البعيدة.

بورتريه: لونا رفاعي

أن تكتب عن دمشق

رسالة إلى صديقي الذي لا يتكلم العربية