in ,

لمن هذا الشارع؟

ميديا داغستاني

كان قد مضى أربعة شهور على بداية الثورة السورية, في صيف عام ٢٠١١ عندما كنا ابنتي وأنا نسير في أحد شوارع مدينتنا حمص. على عادة الأطفال في سنها (أقل من أربع سنوات) كانت دائمة السؤال عما تشاهده أمامها، وبصبر الأمهات المعروف كنت أجيبها بما يشبع فضولها كلما استطعت.

لم أفاجأ عندما سألتني سؤالاً بدا لوهلة أنه من ضمن أسئلتها الطفولية: “ماما لمين هادا الشارع؟”. وبالطبع، مع مسحةٍ توجيهية بحسب مقتضيات التربية كما أعتقد، أجبتها دون تدقيق في كلماتي: إنه لنا، هو وكل هذه الشوارع، إنها مدينتنا لذلك علينا ابقائها نظيفة كما نفعل في بيتنا. “زيا” أردفت بسؤال آخر لأعلم أن السؤال الأول كان تمهيدياً: “إذا هادا الشارع إلنا، ليش ما منقدر نقول فيه شو ما بدنا؟”. كان سؤالها احتجاجياً على نحوٍ ما، فأنا منذ شهور أدربها كي لا تردد ولا تذكر في الشارع الشعارات التي كانت تغنيها في البيت مما تسمعه وتراه في نشرات الأخبار، ربما دون أن تفهم معناها. ومن بينها الهتاف الأشهر في المظاهرات “الشعب يريد إسقاط النظام”.

أوقفت النقاش بادئ الأمر، فنحن في الشارع، وزيا لم تتدرب بعد كباقي السوريين على خفض صوتها عندما يقتضي الأمر، كي لا يسمعنا أحد. لكن هذا السؤال البريء سيفتح فيما بعد جملة لا تنتهي من الأسئلة، في داخلي على الأقل. محاولةً الإجابة على الأسئلة التي فجرها سؤال “زيا” البسيط والقاسي ولّدت لدي ما أستطيع وصفه بواحدة من أهم لحظات الإرباك في حياتي.

ما معنى الوطن؟ وأي شعور هذا الذي أكنّه لوطن لا أستطيع أن أقول فيه ما أريد أن أقوله خوفاً من النظام؟ ولا أستطيع أن أرتدي الثياب التي أريد مراعاة للتقاليد الاجتماعية وسلطتها القوية التي تطال مختلف مناحي حياتنا؟ بدت لي كل الأشياء التي نفعلها وكأنها مسروقة ويجب إدارتها بكثير من المواربة. من أين يأتي ذاك الدفء إذاً في حياتنا مع الأهل والأصدقاء وتلك المشاعر المميزة وسط كل تلك التناقضات؟ هل كنا نقتطع لحظات الدفء الوافرة في حياتنا ذات الإيقاع البطيء في غفلة عن قسوة القوانين والأعراف في المجتمع؟ أم هي لحظات متراكبة معها وسمة من سماتها؟ وأخيراً كان السؤال الأهم ماذا أريد أنا؟

لن أستطيع الادّعاء بأني تمكنت من الإجابة عن أيّ من أسئلتي ولا حتى عن سؤال “زيا” المفتاحيّ. وها أنا اليوم هنا في ألمانيا، بعد سنوات طويلة ومتقلبة. وللمفارقة (المفهومة بالتأكيد) هنا في برلين بتُّ أحن لذاك الدفء المميز الذي أفتقده. فهنا لا يتصل بك الأصدقاء ليخبروك أنهم قادمون خلال ساعة. ولا يخطر لأحد أن يطرق الباب دون موعد بهدف مفاجأتك. إنه إيقاع آخر يختلف تماماً عن كل ما عرفته في حياتي. في لحظات الحزن كنت سأجد صديقاتي حولي خلال برهة مستنفرات لسماعي والإصغاء لي لساعات طويلة، أما هنا فلا.

كان مضحكاً لي وصادماً في آنٍ معاً، أن يصلني “إيميل” من صديق من أجل أن نلتقي. وحتى اليوم وبعد أن غدا هذا الأمر عادياً بفعل التكرار ما زلت أضحك كل ما وصلني “إيميل” من هذا النوع، وأتساءل أما كان للاتصال أن يكون أسرع وأكثر حميميةً؟ لا ليس الأمر كذلك. فالإيميل هنا ربما يخبرك أو يسألك عن لقاء بعد أسبوع أو اثنين. ما الذي جرى؟ فنحن ما زلنا السوريين أنفسنا، فكيف استطاعت أجواء هذا البلد الجديد أن تكون فاعلة في دواخلنا على هذا النحو؟

من المعروف أن ملايين السوريين بعد الثورة وبسبب ظروف الحرب الصعبة اضطروا إلى اللجوء إلى العديد من الدول ومنها ألمانيا بالطبع. وكان سؤال الاندماج من أصعب الأسئلة التي ما زالت تربك السوريين. فليس سهلاً الانتقال على نحوٍ مفاجئ من مجتمع تتسم حركته بالكثير من الفوضى والارتجال والعفوية، إلى مجتمع يمكن وصفه بالمُؤتمت حتى اجتماعياً.

أصاب الإرباك الجميع دون استثناء وإن بدرجات متفاوتة وصلت في بعضها لحدود الاكتئاب. وربما رداً على هذه الحالة المربكة، بدأت تتشكل لدى السوريين بؤر جذب يبادر إليها شباب مميزون، هي خطوات تأتي ببطء ولكنها بدت جاذبة مما يوحي بأنها ستترسخ لتكون فاعلة في الحياة الاجتماعية الألمانية للسوريين هنا. خطوات تحاول المواءمة بين الحاجة الأصيلة لدى السوريين (والمشرقيين عموماً) للعلاقات الاجتماعية العفوية الدافئة وبين الحياة الألمانية بالغة التنظيم والرتابة.

استفاد العديد من الشباب السوريين من الحرية والديمقراطية والأنظمة والقوانين الألمانية، التي لن تمنعك بأي حال من أن تكون كما تريد ما دمت لن تؤذي الآخرين. وبدأوا بتشكيل وجود سوري في بلد لجوئهم الجديد. هنا في برلين، لا يمضي شهر دون أن يكون هناك أكثر من حدث ثقافي, موسيقي, مسرحي. أو حتى حفل ستكون فيه للشباب السوريين اللمسة الأوضح. وقد يبدو طريفاً أن أهم وأجمل هذه الاجتماعات وأكثرها متعة وجذباً، عندما يتم الإعلان عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن إقامة حفل عيد ميلاد لشخص ما في مقهى معين. هكذا ستبدو الدعوة عامة قد يتواجد فيها في بعض الحالات عدد كبير ربما يتجاوز المائة. سيحضر الموسيقيون آلاتهم ويبدؤون بالغناء، أغانٍ من التراث والفولكلور السوري وسرعان ما سينضم العديد من الألمان والأجانب للمشاركة والاستمتاع.

اليوم وبعد ثلاث سنوات في برلين مع بدايات جيدة لحياة جديدة. ومع شعور بالفخر ما زال يلازمني بلغتي وبثقافتي وموسيقاي الجميلة. أحب برلين، أحب أني أعيش في بلاد الحرية، ويسحرني أننا استطعنا أن نعيد ترتيب لقاءاتنا الدافئة ضمن هذه المدينة الباردة. لكني لم أستطع بعد الإجابة تماماً على سؤال “زيا”. فرغم أن لدي بدايات مبشرة بالانتماء لهذه المدينة. وأقول هنا في الشارع ما أريد أن أقول بصوت عالٍ ودون خوف، لكني ما زلت بانتظار أن أصل للقول أن هذا الشارع لي، وسوف أصل.

ميديا داغستاني/ كاتبة من سوريا

اقرأ أيضاً:

الضياع بعيدًا عن حلب

 

“العدالة حقّ لنا نحن السوريين جميعاً” جمانة سيف تروي قصتها لأبواب

أنواع الطحين في ألمانيا: دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجرّبة