in

في حوار مع الكاتبة السورية رباب حيدر.. الحرب ليست في مكانٍ آخر

بالذات الحرب، بدأت بالكتابة عن هذا الموضوع بالذات في محاولة للحفاظ على توازني. لم أهتم بالنشر في البداية، كتبت كأني أحفر حفرة في التراب لأصرخ فيها “أذني الملك كأذني الحمار”.

هكذا بدأت الروائية السورية رباب حيدر كلامها رداً على تساؤل عما يحفزها على الكتابة عن الحرب في سياق دراسة لمركز أبحاث جامعة يورك البريطانية، وتنشر أبواب هذا اللقاء باللغة العربية.

تتابع رباب حيدر القول.. شعرت في وقت من الأوقات بالرغبة في قول كل شيء، لسد الثغرات التي لا تذكرها وكالات الأنباء، معلومات مغلوطة أو ناقصة، عمداً أو نتيجة لسوء فهم أو لأن هذه الزاوية من القصة لا تهم مستهلكي الأخبار أو لا تتناسب مع توجه تلك الوكالات.

وبقراءة التاريخ نرى وبوضوح أن القصص مكررة تقريباً نفسها في كل حرب، لماذا نميل إلى نسيانها؟ لم تتجاهل كل درس تعلمناه؟ نحن الكتاب، بشكل فردي، نميل إلى كتابة الأشياء التي لا نريد أن ننساها.

. أحد نصوصك” حديث لن يكون حزيناً عن الحرب” يعرض الكثير مما تتركه الصحف والأخبار التلفزيونية. إنه بالتأكيد نص حزين. ما الذي جعلك تختارين هذا العنوان؟

الحرب حزينة ، لكننا لم نكن حزينين.. خلال اللحظات المتفجرة للبشرية، لا يشعر الناس بالحزن، بل بالغضب، بالجنون، وعدم الإيمان. كنا مشغولين للغاية في صراعاتنا اليومية للبقاء على قيد الحياة، لذلك يصبح المرء عملياً ومتكيفاً!

يحتاج الحزن إلى مساحة لا تمنحك إياها الحرب. في الواقع، كان البقاء كجهد جماعي مضحك في بعض الأحيان (كوميديا سوداء)، كنا نضحك من مهاراتنا الجديدة لطهي النباتات البرية أو توليد الحرارة في فصل الشتاء بحرق بنطال قديم من الجينز من دون أن يخنقنا دخان القماش الكثيف.  

كتب الثوار في دمشق أسماء الأشخاص المفقودين الذين اختطفهم النظام على كرات بينغ بونغ، ثم أطلقوها من أعلى شوارع الأحياء الفقيرة التي تؤدي إلى قلب دمشق. هل تستطيع أن تتخيل صورة رجال الأمن والمخابرات وهم يركضون خلف تلك الكرات لأميال وأميال؟

عندما منع النظام المتظاهرين من الوصول إلى الساحة الرئيسية في حمص “ساحة الساعة” قام المتظاهرون بعمل مثال يشبهه من الورق المقوى، نصبوه في طريق فرعي، وتجمعوا حوله. تظاهر المئات وهتفوا وضحكوا وتصوروا، ونحن تناقلنا الصور وضحكنا وابتسم العالم. ثم كل من تمايز وجهه في هذه الصور إما قتل أو اختطف أو أجبر على الهرب سباحة أو سيراً على الأقدام. لا أحد يتخيل مقدار العنف الذي جابهناه بالضحك.

حديث الحرب كان حزينا على البعيدين، الدراما كانت للذين على الجانب الآخر من الشاشة. لكن بالنسبة لنا لم يترك الموت مساحة للحزن. الحزن رفاهية لم نكن نملكها. إن استسلم أحد منا للحرب لم يحزن بل فقد عقله وجن أو مات. لذا كنا نضحك من النظام والأخبار والموالاة والمثقفين في الخارج والمعارضة.

. بالنسبة للألمان تأخذ الحرب في سوريا شكل “عنف في مكان آخر”، ماذا يعني هذا بالنسبة لك؟

البشر، في محاولة للتكيف ربما، فإنهم يميلون للنسيان!

مقولة “في مكان آخر” تحمل دلالة جد خاطئة بأن العنف تابع لأماكن اخرى، لأناس آخرين، أو بلدان أخرى.. وهذا ليس صحيحاً بالمرة. إذ قبل أن تحدث الحرب في سوريا حدثت في العراق، قبل ذلك في لبنان، قبل ذلك في دول البلقان، إسبانيا، دول في قلب إفريقيا وعلى أطرافها، الحرب العالمية الأولى والثانية… كما لو أن الحرب هي خطأ بشري متكرر.

يقول التاريخ أن العنف لم يكن أبداُ “في مكان آخر” بل أبداً يحوم في الأرض تحت أقدامنا، في اللحظة التي يجد فيها صدعاً أو أرضاً رقيقة، ينفجر.

. هل تعتقدين أن أولئك الذين لم يختبروا عواقب الحرب يستطيعون فهمها؟ كيف يمكن تقديم فهم أفضل؟

أتمنى لو أستطيع أن أقول “نعم نحن نفهمها حتى لو لم نختبرها” لكن يبدو حتى لو مررنا بها فإننا نميل إلى عدم إدراكها أو التغافل عن دروسها.

قد أبدو متشائمة بعض الشيء، لكنني لست كذلك. لم يجد البشر نظاماً يتحكم في جشع الإنسان (من الرأسمالية، حتى الشيوعية، وكل ما وقع بينهما) لكن القانون الجيد والتنفيذ الصحي لهذا القانون هو دائماً سور منيع إلى حد ما يمنع تسلل النواقص البشرية فردية كانت أم جمعية.

من الأفضل أن نراقب أنفسنا حتى لا نكررها مرة أخرى. هذا يقودنا إلى الجزء الثاني من السؤال. علينا أن نكتب عن الحرب؛ في الأدب، الأفلام الوثائقية، الدراما، المسرح، السير الذاتية، لننظر إلى الأمر من وجهات نظر مختلفة ونحللها ونفندها. ندرسها وندرس الظروف وندرس أنفسنا، دراسات اجتماعية اقتصادية وسياسية حتى لا نصل لنقطة الغليان التي يمكن أن تؤدي لأي نوع من أنواع العنف.

أنا أؤمن بالوعي الإنساني عندما يستيقظ. أؤمن بالقدرة الكبيرة للوعي الإنساني على الوصول إلى حلول. وحتى الآن استطعنا تحديد بعض الأعراض والأسباب وبعض النتائج:

  • ستؤدي الأنظمة الديكتاتورية والشمولية دائماً إلى حروب قذرة وعنف وموت كثير.
  • سيكون الأشخاص المضطهدون والمقموعون أقسى الجنود أو أكثر الضحايا هشاشة.
  • سوف يخلق الظلم الاقتصادي دائماً طبقة من المتطرفين الجهلاء، وهم الوقود المثالي الحاضر للاستخدام في أي حرب.
  •  التعليم الفعال المبني على الحقائق (التعليم غير المؤسساتي، أو الفاشي، أو المتطرف) هو خط دفاع حقيقي ضد العنف.

. ما الذي تعنيه بالتعليم الحقيقي والفعال غير المؤسساتي؟

شرح طويل سأكون مختصرة، لنأخذ بعض الأمثلة:

-عام 1988 بسبب سياسة الشفافية التي كانت تهلل لها في ذلك الوقت، ألغت السلطات السوفيتية اختبارات التاريخ للمدارس الابتدائية، السبب الرسمي أن منهج التاريخ كان زائفاً!

– يحتفل النظام السوري والمصري منذ السبعينات بالفوز في حرب السادس من أكتوبر عام 1973 على إسرائيل. نعلم اليوم أن الجيشين السوري والمصري خسرا المعركة. أتذكر كنا نقرأ في كتب التاريخ كيف أن سوريا حينها “هزمت الإمبريالية العالمية”!

– تقريباً في كل نقاش، بعد مقال أو نص لي، هناك تعليق أو هناك شخص ما سوف يجادل بأن اللاجئ يأخذ المال المفترض أن يكون للمواطنين الألمان. شخص ما مضللاً، غافلاً أو جاهلاً لحركة الاقتصاد والمال.

البشر المضللون هم أرخص أنواع الوقود وأكثرها قابلية للاشتعال.

تم نشر هذا اللقاء في سياق دراسة لمركز أبحاث جامعة يورك البريطانية بالاشتراك مع جامعة AUC و DAAD بالتعاون مع Weiter Schreiben، تجمع “متابعة الكتابة” الذي تنتمي له الكاتبة رباب حيدر.

بالضغط هنا يمكنكم الاطلاع على اللقاء الأصلي مع الكاتبة.

رباب حيدر: روائية من سوريا ومترجمة ولها العديد من المقالات في صحف عربية وألمانية.

اقرأ/ي أيضاً:

أن تكون إنساناً بما تعنيه الكلمة من دلالةٍ “أخلاقية” أو لا تكون.. مصطفى خليفة صاحب رواية “القوقعة”

“إجراء شكلي”.. لعبة مسرحية من تصميم “تجمع مقلوبة”

لقاء مع الشاعر فايز العباس: 5 ميغا بيكسل.. ضوء الشِعر من عدسة الهاتف

أفلام عيد الميلاد.. هذا ما يشاهده الألمان كل عام

توتنهام تشيلسي.. بين تحضير “لامبارد” وصرخته