in

“عزا” مسرحية موسيقية عن مشهد “طبيعي” في حياة الفلسطينيين

رشا حلوة*

كان العرض الأوّل لمسرحية “عزا” لفريق “شبر حرّ” في حيفا، من إخراج نزار أمير زعبي وكتابته مع المجموعة، بعد أن تركتُ فلسطين باتجاه ألمانيا، وتحديدًا مدينة شتوتغارت، لبدء إقامتي في الصّحافة الثّقافيّة. وصراحة، لا أحبّ أن أفوّت مشاهدة أي مسرحية لنزار أمير زعبي. لكن عندها، علمت أن المسرحية  الموسيقيّة سوف تُعرض في برلين، خلال شهر أيلول/سبتمبر 2016، ضمن مهرجان “بعد السّماء الأخيرة”، والذي بدأ في التّاسع من أيلول/سبتمبر ويستمر لغاية التّاسع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2016 في برلين، وهو مهرجان دوليّ ومتعدد المجالات يسلط الضّوء على الفنّ الفلسطينيّ المعاصر.

كنت قد وصلت إلى برلين مساء الرّابع عشر من أيلول/ سبتمبر، وكان قد وصل الأصدقاء من مجموعة “شبر حرّ” المسرحيّة في اليوم ذاته. التقينا في اليوم التالي، ما قبل مراجعتهم للمسرحية في مسرح “بال هوس” في برلين؛ الكاتب والمخرج نزار أمير زعبي، الموسيقيّ فرج سليمان، مصممة الحركة والرّاقصة سمر حدّاد كنج، مهندس الإضاءة معاذ الجعبة، مديرة الإنتاج خولة إبراهيم والممثلين خليفة ناطور، عامر حليحل، هنري إندراوس، أديب صفدي، وائل واكيم.

علمت مسبقًا عما تحكي المسرحية، سواء من خلال الإعلان عنها: “مسرحيّة موسيقيّة عن بيت عزاء في فلسطين، حيث يجتمع مجموعة من الرّجال لإكرام الفقيد بالتعزية والمواساة”، أو من خلال الأصدقاء في مجموعة “شبر حرّ” المسرحيّة ومن خلال أولئك الذين شاهدوا عرضها الأوّل، بالطبع، من غير تفاصيل عن فحواها.

كان العرض يوم الجمعة، السّادس عشر من أيلول/ سبتمبر 2016 عند الثّامنة مساءً، حيث وصل العرض جمهور متنوع ما بين الفلسطينيّ، السّوريّ والعربيّ عمومًا وكذلك الألمانيّ، مما توفرت ترجمة إلى الإنجليزيّة للمسرحية الموسيقيّة.

القصّة

تنقل المسرحيّة مشهدًا من بيت عزاء لرجل مات للتوّ، خلال أيام العزاء الثلاثة، من خلال شخصيات تربطهم علاقات متنوعة بالرّجل، من أبنائه إلى أقاربه وآخرين من القرية، ولكل منهم قصّته معه، هنالك القصص الأقرب والأكثر تفاصيلاً وحميميّة، مثل قصص أبنائه، سواء التي عاشوها معه أو سموعها من آخرين عنه، وتلك التي يعرفها البعض من طفولته ودراسته وشبابه وحتى آخر أيام حياته.

جميع القصص تُسرد بجديّة مطلقة، لكنها تتنوع ما بين سياقها السّاخر وذلك الدّراميّ من حيث الأثر، فنجد جملة يقولها أحد الممثلين لها أثر مضحك على الجمهور، وأخرى لها واقع أكثر جديّة بل مبكيّة أحيانًا. بغض النّظر عن أسلوب كتابة نزار أمير زعبي والمجموعة للمسرحيات، والتي تتميّز دومًا بنكهة ساخرة وسط الدّراما المطلقة، إلا أن في مسرحية “عزا”، لها وقع إضافيّ، فهي تقترب إلى حقيقة أشكال بيوت العزاء العربيّة عمومًا والفلسطينيّة خاصة، في مثل هذه الحالة. وكيف يتعامل أهل الفقيد أو أقاربه أو معارفه في الحديث عنه، بإقحام معلومات عنه، بمعظمها لا تمت للحالة بصلة، ولا حاجة لها، إنما هنالك حاجة لكل من يزور بيت الفقيد بالحديث عنه كأنه يعرفه معرفة قريبة، وبالحقيقة لا يعرف عنه، على سبيل المثال، إلا أنه لا يحبّ رائحة الجوافة، أو التّونا، في حالة مسرحية “عزا”.

العامل الآخر هو التلاعب الزّمني في السّرد، وهذا ما يحتاج أحيانًا، بالنسبة إلى المشاهد، لوقت كي يربط الخيوط ببعضها البعض. والمقصود هنا هو سرد القصص عن الفقيد، التي تنتقل ما بين السّياق الزّمنيّ لحدوثها من واحد إلى آخر بلا تسلسل زمنيّ واضح، عدا عن نهاية المسرحية، بشكل أو بآخر؛ عند البداية يتحدث ابنه عنه بقصة قريبة زمنيًا من رحيله، من ثم يتحدث آخر عن شبابه، وبالتالي، قصص عديدة عن نفس الشّخص تُنقل بأصوات مختلفة؛ زمنيًا وكذلك من ناحية قربها إلى الفقيد، قصص سُمعت على لسانه وأخرى تناقلها الناس، إذن، ما هي الحقيقة؟ ومن هو الرّجل؟ وكأن المسرحية تجيب عن السّؤال: لا حقيقة سوى الموت.  بالإضافة إلى أنّه، بشكل ما، كل القصّص قصصه، لكن وحده الابن، في نهاية المسرحيّة، يلخص الفكرة كلّها: “أبوي مات قبل 3 أيام”.

img_7393adeeb

الموسيقى

تحضر الموسيقى بقوة في المسرحيّة، لا كخلفية للسرد أو الحوار، إنما كجزء أساسيّ منهما. وما يميّز الموسيقى، هي أن فرج سليمان قام بتلحين جمل العزاء التي تُقال في بيوت العزاء الفلسطينيّة عمومًا، والتي نعرفها ونرددها جميعًا، مثل: “أنتم السّابقون ونحن اللاحقون”، وأعطى لها ألحانًا غنائيّة رددها الممثلون بأصواتهم المتنوعة، ككورال أو كأفراد، مثل عامر حليحل وهنري إندراوس.

الموسيقى الحيّة على المسرح، والتي تميّز تعاون نزار زعبي وفرج سليمان المستمر، مثل التي قدّمت بأصوات الممثلين فقط، مثل مسرحية “عزا” الموسيقيّة، أو بعزف الموسيقيّ فرج سليمان في مسرحية “غربنا البحر” التي عُرضت في يافا قبل عامٍ، تعطي بعدًا إضافيًّا للعمل المسرحيّ، والذي يدرك القائمين عليه أهمية الموسيقى الحيّة التي تقدّم على خشبة المسرح وتأثيرها على تسلسل أحداث العمل الفنّيّ وبالأساس على وقع كلّ هذه التفاصيل على المشاهد. وبالتالي، فهي تُعطى أهمية للموسيقى بحد ذاتها، كعامل أساسيّ في العمل المسرحيّ، بمثل هذه الحالة، وبأن نصوص الممثلين والديكور والإضاءة، جميعها حاضرة بشكل حيّ على خشبة المسرح، وبالتالي فهي تتحاور في الوقت الحيّ/ وقت العرض، وتؤثر على بعضها البعص، وهنالك ضرورة أن تكون للموسيقا هذه المساحة أيضًا إلى جانب كافة العوامل المسرحيّة الأخرى.

الحركة

لربما أكثر ما لفتّ نظري بما يتعلق بالحركة على المسرحية، حركة الممثلين والتنقل بين قصّة وأخرى ومشهد وآخر، هي فكرة أن ترى مكانًا واحدًا من الناحية البصريّة، بنفس تفاصيل الدّيكور والإضاءة؛ الكراسي البيضاء المألوفة في بيوت العزاء، تلك المصطفة واحدة إلى جانب الأخرى وتلك التي وُضعت فوق بعضها البعض، الإضاءة الخضراء، الشّكل البسيط لبيوت العزاء، إلا أن مشاهد الحركة جميعها، كانت قادرة أن تُشعرني، كمشاهدة، بأن الدّيكور يتغيّر طوال الوقت، وبأن المشاهد تقترب إلى أن تكون سينمائيّة كذلك.

أهمية المسرحيّة في سياق المشهد الثقافي الفلسطيني

يتخصص مهرجان “بعد السّماء الأخيرة” في تقديم الفنّ الفلسطينيّ المعاصر للجمهور في برلين، سواء الجمهور الألمانيّ أو العربيّ الذي يقيم في العاصمة الألمانيّة. وفي قراءة للبرنامج المستمر لمدة شهر، عمل المنظمون بجهدٍ على تنظيم أمسيات موسيقيّة وعروض مسرحيّة ومعارض وقراءات شعريّة من المشهد الفنيّ الفلسطينيّ المعاصر في فلسطين والعالم، ولم يقتصر على تقديم الفنّ الفلسطينيّ التراثيّ، بما في ذلك من تسليط ضوء على فكرة أن الفنّ الفلسطينيّ لا يقتصر على المواد التراثيّة فقط، كما يتعامل العديد معه، سواء في فلسطين أو خارجها. وبأنه، أي الفنّ الفلسطينيّ، حيّ ومستمر الإنتاج، مرتبط بالفعل الماضيّ بقوة، مستمد منه، ولكنه أيضًا مرتبط في الحاضر ومحيطه العربيّ وكذلك العالميّ والإنسانيّ، مرتبط بتفاصيل حياته اليوميّة أيضًا؛ مسرحية “عزا” هي مسرحية تحكي عن بيت عزاء لرجل من بلدة فلسطينيّة صغيرة، لم يُذكر الاحتلال أو مواضيع سياسيّة مباشرة، لكن مع هذا، كان الاحتلال حاضرًا وكانت معاناة الفلسطينيّ في أراضي الـ 48، حاضرة كذلك، بلا أن تُذكر داخل أي جملة مباشرة. وهذا برأيي ما يميّز الفن الفلسطيني المعاصر: بأنه يحكي عنا، عن قصصنا كأفراد وكجماعة، عن همومنا الذّاتيّة، والتي هي جزء من الهمّ العام، بلا أن تُذكر كلمة “العام”.

مسرحية “عزا”، كالعديد من الإنتاج الفنّيّ الفلسطينيّ المعاصر، تعيد صياغة أهمية سرد قصصنا الذّاتيّة؛ قصّة الابن مع موت والده، الموت “الطّبيعي”، هي بحد ذاتها مقولة وسط الموت المفروض على العديد في محيطنا، بالقتل والتعذيب، والذي يستحق الوقوف عنده وتسليط الضّوء عليه. لأن هذا الفقدان المرافق بألمٍ ذاتيّ مستمر، لا يقل قيمة عن آلام كثيرة نعيشها، عشناها، سنعيشها، أو سمعنها عنها.. كأفراد وكجماعات، وهي بالطبع جزء من قصصنا كفلسطينيّين.

 

*صحافية فلسطينية مقيمة حاليًا في شتوتغارت-ألمانيا بعد حصولها على إقامة فنيّة في مجال الصحافة الثقافية.

وفاة صاحب أطول وأسعد زواج في العالم استمر تسعين عام

هنغاريا تسيء معاملة اللاجئين وترحب بالمهاجرين الأثرياء فقط