in

بين الدبكة والتكنو – كيف نفهم المجتمع من خلال موسيقاه؟

وسيم مقداد.

الموسيقا لغة العالم، وهي أيضًا، وبذات القدر: نشاط اجتماعي، يتلقاها الجميع، كلٌّ على طريقته، وقلّة هم الذين لا يتفاعلون مع الموسيقا ولا تتحرك مشاعرهم لسماعها. الموسيقا محكومة بقوانين وقواعد أداء تفرض نفسها على العازفين والمؤلفين على حدّ سواء.

علمًا أنها تتنوع وتتطور من عصر إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى كما تتنوع بشكل واضح الأساليب والأنماط Genre لتقديم الموسيقا حتى في البلد والعصر نفسهما، كما هي العلاقة بين موسيقا الطرب وموسيقا الرقص في بلادنا على سبيل المثال لا الحصر.

ما يهمّنا هنا هو البعد الاجتماعي لأساليب الأداء الموسيقي، وهل هناك علاقة تربط القوالب والأنماط الموسيقية بشكل التنظيم الاجتماعي لشعب ما في عصر محدد؟

يمكننا القول إن الشكل الموسيقي سواء أكان من ناحية التأليف أو من ناحية الأداء مرتبط ارتباطًا وثيقًا بشكل العلاقات الاجتماعية الناظمة لحياة المجتمعات. ويمكن إعطاء أمثلة على ذلك من التاريخ ومن الحاضر أيضًا.

بالمقارنة بين موسيقا البلاط في السلطنة العثمانية من جهة والامبراطورية النمساوية من جهة أخرى، في نهايات القرن السابع عشر نجد ما يلي:
عند العثمانيين عدد الموسيقيين العازفين يتراوح بين 5 إلى 10 موسيقيين على آلات مختلفة بما يُعرف بالتخت الشرقي، دون وجود قائد فرقة مستقل، لعدم الحاجة إليه بسبب صغر حجم الفرقة، مما يعطي الانطباع بأن حفلات قصور السلاطين كانت تضم عددًا محدودًا من الحضور، وهم غالبًا من الأعيان والمتنفذين. في هذا النمط الموسيقي يعزف الموسيقيون مقطوعات طويلة على قوالب ثابتة كالبشرف والسماعي واللونغا، بأداء مضبوط. ومن الملاحظ هنا أن جميع العازفين يعزفون اللحن نفسه باللحظة ذاتها بتماهٍ كامل فيما بينهم، وكأنهم شخص واحد، ما يذكّر بحالات التماهي الكامل كما في صلاة الجماعة مثلاً.

بينما في الامبراطورية النمساوية، ورغم وجود قوالب لموسيقا الحُجرة التي تُعزف لعدد صغير من الحضور، فإننا نلاحظ وجود قوالب أخرى كالسيمفونية والكونشيرتو، التي تتطلب أوركسترا كبيرة يعزف فيها عدد كبير من الموسيقيين في الوقت عينه. ولولا أن حفلات القصر كانت مفتوحة لعدد كبير من الحضور من طبقة النبلاء والحاشية لما كانت الحاجة لمثل هذه الفرق الكبيرة. في الفِرق السيمفونية يعزف الموسيقيون ألحانًا متنوعة ومضبوطة بشدة وصرامة كلّ حسب آلته كمجموعة الكمنجات أو النفخيات الخشبية أو النفخيات النحاسية. ما يمكن أن يكون دلالةً لتنوع وتعدد مصادر قوى المجتمع، ولكن، كي تعطي هذه الأدوار أثرًا موحَّدًا؛ لا بد من وجود قائد متخصص للفرقة لولاه لما أمكن للعازفين ضبط إيقاعهم وأدوارهم المختلفة شكلاً ولحنًا لكثرة عددهم وصعوبة تواصلهم البصري وحتى السمعي مع بعضهم، قائد الأوركسترا هنا ذو الدور والوجود المركزيين يشبه كثيرًا دور الامبراطور شخصيًا.

أما عن الحاضر فيمكننا أن نبتعد قليلاً عن القصور المترفة والطبقات التي لا تُطال ولنتكلم عن موسيقا الرقص لدى العامة. ونقارن بين مثالين من هذا الزمان وهما موسيقا الدبكة الحالية و”التِكنو”.

صحيح أن الدبكة قديمة وتقليدية لكن الموسيقا الحالية ليست كذلك، حيث تُستخدم فيها حاليًا آلة الأورغ للقيام بكل الأدوار كاللحن والإيقاع، وحتى الزغردة والتصفيق، وبأصوات غريبة تذكرنا بالموسيقا الالكترونية. في الدبكة يوجد إيقاع متكرر، واضح المعالم، ثابت السرعة، يسمح لمجموع “الدبيكة” أن يوحدوا حركاتهم وضربات أرجلهم مع انتظامهم بدوائرها، مما يوحي بمجتمع منمّط ومتّبع لعادات وقواعد صارمة (كما توحي بذلك حركات الرقصة ذاتها)؛ أما في موسيقا التكنو وعلى الرغم من أن النبضات الإيقاعية ثابتة أيضًا، بل وبرتابة أشد من موسيقا الدبكة، إلا أنها تخلو من نمط إيقاعي واضح مما يسمح للراقصين بالحركة والقفز، كلّ بشكل منفرد نوعًا ما، دون وجود شكل خاص مقيد للحركات وهذا يدل على مساحة واسعة من الحرية الفردية دون شكل موحّد للمجموع.

أخيرًا أود هنا أن أنوّه أن المقارنات التي وردت في صلب هذا المقال ليست بوارد إعطاء حكم قيميّ إيجابي أو سلبي، لأي من هذه التقاليد والأساليب الموسيقية أو المجتمعات التي احتضنتها، وإنما لمحاولة مقاربة التقاليد الموسيقية من منظار اجتماعي.

“ميثولوسيريا” من لاجئ سوري إلى صديقة ألمانية

عن الطعام، الهوية، الهجرة والاندماج