in ,

بالاحترام والأمان والاستفادة من الفرص .. هكذا يجد الوطن طريقه إلينا

اللوحة للفنانة ريم يسوف Facebook / reemyassoufart

لميس سيريس تروي عن تجربتها وكيف أصبحت ألمانيا وطناً لها ضمن ملف “الوطن والانتماء” في أبواب:

اخترت بنفسي منذ أكثر من عقدين من السنين مغادرة سورية إلى البلد الذي أرغب العيش فيه.. فالوطن بالنسبة لي هو المكان الذي أشعر فيه بالراحة، الذي يمنحني حق الحياة كإنسان حر، ولهذا أشعر وبشدة بالانتماء إلى ألمانيا.

لقد أعطتني ألمانيا حقي كإنسان بإمكانه الإدلاء برأيه الشخصي والحر دون ضغوط إجتماعية ودينية ودون خوف! أما انتمائي إلى سوريا فأنا لاأستطيع أن أعتبره وطنياً بقدر ما أربطه بمرحلة جميلة من حياتي لا تقل جمالاً عن المرحلة التي أعيشها حالياً وما قبلها منذ قدومي إلى ألمانيا.

وبالطبع كان هناك تحديات، إذ لا شك أن القدوم إلى بلد غربي والبدء بتأسيس حياة جديدة ضمن نظام اجتماعي مختلف تصحبه صعوبات، لكنّ الصعوبات التي تعرضت لها شخصياً منذ عشرين عاماً كانت تختلف كثيراً عمّا يعترض اللاجئين حالياً، فرغم أنهم تلقوا تسهيلات في مجالاتٍ معينة مثثل إكمال دراستهم، لكنهم يعانون في المقابل من نقص فرص العمل السريعة بسبب حاجز اللغة بالدرجة الأولى، وهم يعانون من ناحيةٍ أخرى من صعوية الحصول على شقة سكنية، فالبلاد اكتظت وازدحمت والمساكن الشاغرة أصبحت نادرة جداً. ولاشكّ أن توفر السكن الشخصي يؤدي إلى الشعور بالاستقرار كخطوة أولى لبدء حياة جديدة.

الغربة بالنسبة إليّ هي جملةٌ من المشاعر يحملها الإنسان بداخله بشكل مستمر إن لم يتمكن من تجاوز ظله. ومن هنا فإن عملية التأقلم مع المجتمع الجديد تتطلب ما أسميته بتجاوز الظل! فعندما نترك الظل حلفنا تزول الغربة ويبقى الشوق الجميل لزيارة الأماكن التي كنا قد أقمنا أو ولدنا فيها سواء كان ذلك مادياً أو عبر الذكريات. أنا شخصيا أحمل ذكرياتي معي أينما ذهبت، فهي خفيفة الوزن يسهل نقلها، لكنها ذات قيمة كبيرة لأن إيقاظها والاستمتاع باسترجاعها لا يحتاج بقعة جغرافية أو وطن.. هذا العالم الجميل والكبير كله وطن إن شئنا أن نتأقلم معه. ولهذه الأسباب تمكنت من التأقلم مع نظام البلد خلال فترة ليست بطويلة ولم أشعر بالغربة، ذلك أنني كنت أزور ألمانيا بين الحين والآخر وأعرف كيفية سير الأمور الحياتية فيها.

 لابدّ من أن أشير إلى أنني منذ اللحظة الأولى من إقامتي في هذه البلاد، وبمجرد شعوري بأني أعامل باحترام وكرامتي محفوظة، أدركت أن هذه البلاد هي مكاني ولم أشعر بالغربة بل ربما بالاشتياق إلى جلسة مع أصدقاء الطفولة أو السهرات العائلية الجميلة والنكتة المميزة! الأوروبيون أيضاً لديهم روح النكتة لكنها تختلف بشكل أو بآخر عنا.

أعتقد أن ما ساعدني وما يمكن أن ينعكس أيضاً على حياة القادمين الجدد، هو أن المجتمع الألماني يختلف عن مجتمعنا من ناحية عدم وجود ثقافة الرضى وعدم الرضى، فلا أحد هنا يفعل شيئاً ليرضي كائناً من كان. هناك قانون ودستور وأسلوب تعامل وأمور أخرى على المرء أن يحترمها، بغض النظر عن دينه وانتمائه السياسي والإثني ومن يحترم هذه القوانين لا ينبذه المجتمع ولا يمسه بأي سوء مهما كانت جنسيته. الدستور الألماني واحد لكل المواطنين والقوانين تسري على الجميع. لا توجد هنا محسوبيات وخواطر، وتتلقى المستشارة الألمانية نفس معاملة أي مواطن أومواطنة في ألمانيا.
أما الخصوصيات والممارسات الشخصية فمكانها هو المحيط الشخصي، والمنزل، والطقوس الدينية لها أماكنها الخاصة أيضاً، وأي شي خارج هذه الخصوصية يخضع لنظام اجتماعي عام يطبق على الجميع، ولا نغفل هنا حقيقة أنه تتم مراعاة الخصوصية في مجالات كثيرة، فالكثير من المدارس ورياض الأطفال تأقلمت مع موضوع اللحومات الحلال والأطعمة النباتية وإلى آخر ما هنالك، وهذا ليس فقط بسبب القادمين الجدد إنما لأن الاختلافات موجودة ضمن المجتمع الواحد أيضاً وهي جديرة بالاحترام.

ولكن لا يجب المبالغة عند أخذ هذه الخصوصية والمراعاة بعين الاعتبار، ففي ألمانيا نظام اجتماعي للمواطن فيه كما للنظام حقوق ولكل منهما أيضاً واجباته تجاه الآخر. والقوانين تنطبق على الجميع وعلى المرء أن يتقبلها كما هي لكي ينال جميع حقوقه. ولا يعقل أن يتغير مجتمع بأكمله من أجل القادمين الجدد، فعندما يخطط الأوروبيون لزيارة دولةٍ عربيةٍ ما، يستفسرون من وزارة الخارجية قبل السفر عما يتوجب عليهم مراعاته في تلك البلد، ولذلك من البديهي أن يراعي القادمون الجدد أيضاً ما يصح وما لا يصح في المجتمعات الأوروبية. ومن هنا أعتقد أن اللاجئ إن فهم هذه الحقيقة فلن يحتاج إلى وقت طويل للاندماج، وسيبقى حراً في ترتيب حياته كما يشاء دون أن يتدخل أحد بأموره الشخصية. لكنّ هذا بالطبع متوقف على طريقة تفكيره وجهده ورغبته الشخصية في التأقلم مع نظام البلد الجديد.

وفي اعتقادي فإن السوريين متعلمون بشكل عام، وبينهم نسبةٌ لا بأس بها تمثل جيلاً واعياً وفكراً منفتحاً وطموحاً، ولاشكّ أنّ بينهم طاقات خلاقة ومواهب بارزة جديرة بالدعم. وألمانيا تدعم المواهب، ومن هنا أتصور أن تجربة ألمانيا معهم لن تفشل إن حرصوا على عدم التكتل والتقوقع فيما بينهم، والانفتاح والتعامل مع مؤسسات ألمانيا، والسكن في أماكن متفرقة لئلّا يشكلوا كانتونات سورية ولتلوين وإغناء المجتمع الألماني بطبيعتهم المقبلة على الحياة وبحبهم للحياة بالرغم من عطش الطريق المتعب.

لميس سيريس

اقرأ أيضاً:

“الهوية الوطنية” الإشكالية المتجددة

“أبواب مفتوحة… عقول مفتوحة” مشروع توجيه مهني وتدريب سياسي يستهدف النساء الشابات في برلين

ألمانيا تسجل رقماً قياسياً للوظائف الشاغرة آواخر 2017