in ,

ابنتي وأنا.. بين تربيتين‎

Foto: REUTERS/ALY SONG

ميديا داغستاني. ناشطة سورية في مجال حقوق الإنسان مقيمة في ألمانيا
هنا في برلين، طلبت مدرّسة الموسيقى في مدرسة ابنتي من بعض التلميذات ألا يرتدين التنانير القصيرة لأنها تتسبب بإلهاء الطلاب الصبيان وحتى الأساتذة عن التركيز، بحسب تعبيرها. على الفور، تقدمت طالبات الصف لابنتي (13 سنة) بشكوى، بصفتها المتحدث باسم الصف. الحقيقة لا أدري كيف أنه لم يخطر ببال ابنتي سوى رد واحد -بدا لي متطرفاً- على ما اعتبرَته تدخلاً في حرية الزميلات. جمعت زملاءها في الصف وطلبت من جميع الطالبات ارتداء التنورات القصيرة في درس الموسيقى التالي، وطلبت إلى زملائها الصبية وضع المكياج على وجوههم.

المفاجأة بالنسبة لي، وما بدا أنه طبيعي جداً بالنسبة لابنتي، أن الجميع لبى الطلب، الأمر الذي شكّل مفاجأة صاعقة للمدرسة. أرادت زيا وزملاءها القول لمدرسة الموسيقى، وربما للآخرين، بأن ليس لدى أحد الحق بأن يحدد لنا ما نرتدي من ثياب، ونحن فقط من يحدد ذلك وعلى الآخرين تعلّم احترامنا واحترام خياراتنا، بغضّ النظر عن وجاهة كل رأي.
تؤمن زيا التي تعيش في ألمانيا منذ منتصف عام 2014 بالحرية الفردية والاجتماعية، وتهتم بالقضايا العامة السياسية والاجتماعية، ومتطرفة ( بالنسبة لي) بحرصها على الحفاظ على البيئة. أتابعها أنا أمها وأتابع اهتماماتها بشيء من الفخر، ولأعترف بشيء من الحسد. أتذكر طفولتي ومراهقتي بحسرة، و أفكّر على الدوام بكمية الطاقة التي أهدرتها، على أشياء وقضايا وحقوق يفترض أن تكون طبيعية ومن بديهيات الحياة. للأسف في مجتمعنا الذي نشأت فيه، احتاجت مني تلك الحقوق لمعارك قاسية غالب الأحيان، والأدهى أنني احتجت أن أسرق ما لم يكن بمستطاعي الحصول عليه علناً. أفكار مشرقة وقاتمة كانت تجتمع في رأسي بحالة من الفوضى وعدم الاتساق، كأن ينشأ عندي ارتباك مضني بين القيم الاجتماعية والسياسية وعموم المفاهيم الكبرى التي يتم نقاشها في بيتنا، وبين أهمية رأي جارتنا مثلاً بموعد عودتي مع صديقاتي مساء. بين سلطة الأهل وقناعاتهم الشخصية وسلطة المجتمع عليهم.

في فترة سجن أبي (ًقضى أبي 9 سنوات كمعتقل رأي في سوريا) أقمنا في بيت جدي في السنوات الأولى، ثم بلا أي سبب مفهوم بالنسبة لي، نقلتنا أمي وعادت بنا إلى بيتنا الخاص. لم أفهم ولم يفسّر لي أحد، لمَ كان عليَّ البقاء في البيت وحيدة مع أختي الصغرى وأنا في عمر العشر سنوات لحين عودة أمي من العمل.  أنا الطفلة التي  كنت أفضّل البقاء والعيش في بيت جدّي لألعب مع أبناء وبنات الأخوال. ستمرّ سنوات كي أبدأ بفهم بعض من تصرفات عائلتي، وأمي بشكل خاص في تلك الفترة. نقلتنا أمي لأننا بنات ولا تريد لأحد أن يتحكّم بنا. يومها لم تشرح لي أمي سبب ذاك الانتقال الكارثيّ لطفلة تريد اللعب مع أصدقاء.
اقرأ/ي أيضاً للكاتبة: ابنتي وأنا وأنغيلا ميركل
مثل أمي، ولكن بظروف مختلفة، ربّيت أنا ابنتي دون أن أسمح لأحد بالتدخل في تلك التربية، ولكني كنت مضطرة، والحقيقة راغبة، بأن أشرح لها كل تصرفاتي معها، كأن أقول لها لا على بعض الأمور أو أن أمنعها من تصرفات كانت كطفلة تستهويها. كنت بشروحاتي تلك أعوض من خلال تربيتي لها عن كل الجرائم والتشوهات التي نحتها المجتمع بداخلي، وأحاول النجاة بها من ذاك التناقض الذي طالما عشته بين أفكاري، وأفكار أبويّ التي تعد ليبرالية، لكنها كانت تتحرك في مجتمع متعصب لا يقيم وزناً لخصوصية الفرد، بل ولا يقيم وزناً لأي رأي مختلف، والأحرى أنه يستهتر برأي طفل وخاصة لو كانت بنتاً. 
في الصف الأول الثانوي في مدرستي بمدينة حمص، منعتني مدرسة مادة التربية الدينية من حضور أي حصة خلال كامل العام الدراسيّ. كان السبب سؤال تلاه نقاش بيني وبينها حول فكرة القضاء والقدر وهل الإنسان مسيّر أم مخيّر، وهي الفكرة التي تثير الكثير من اللغط بين من هم في مثل تلك السن. كان ذاك درساً قاسياً تعلمت منه بداية ألا أحمل آراء أسرتي إلى المدرسة ، ثم تعلمت الكذب (كنت أدعوه التأقلم) وبتّ أخبر وأناقش كل أحد بما يناسبه ويناسب بيئته وأفكاره.

كنت في كل لحظة ألحظ التشوهات والتصدعات بين ما نقول وما نفعل. الكذب حرام والسرقة كذلك، والناس من حولي تكذب وتسرق في كل شيء تقريباً بدءاً من المشاعر وصولاً إلى المادّيات، ولطالما صادفت خلال دراستي الجامعيّة من يدفعون ثمن الدروس الخصوصية للأستاذ، لا ليحسّنوا من تعليمهم لكن كي ينجحوا. ولطالما سمعت عمّن يبحث عن وظيفة تكون عائداتها من الرشوة جيّدة، بل ومستعد لدفع رشاوى باهظة للحصول على مثل تلك الوظيفة. كانت منظومة أخلاقية نظرية تتعارض، على مدار الساعة، مع الحياة اليومية لتغدو شرخاً، نتعايش معه ونحمله كعبء ثقيل يأكل من نزاهة أرواحنا في كل لحظة.
في بيتنا كانت هناك تعليمات صارمة من أبي، الذي ذاق مرارة حجز الحرية، عن تصنيفات متناقضة وغير مفهومة للحرية، وخاصة في حقل الرأي السياسي, تعليمات كلها ستودي لأن أكون كاذبة ومتلونة. ما نتحدث به في البيت لا نقوله أبداً في المدرسة والشارع، أو أمام بعض ضيوف بيتنا حتى. كانت تلك واحدة من التعليمات المقدسة لأبي. ولأعترف أن تلك التناقضات كانت تبدو لي كنوع من الألعاب البسيطة، مقارنةً بباقي أساليب التربية في المجتمع المحيط، بما تتضمنه من ضرب وإهانات في البيت والمدرسة مع مفاعيلها التي تكسر روح الطفل وتشكل البيئة الأمثل ليتعلم الكذب والخوف. شخصياً حين أستعرض اليوم ذاكرتي عن المدرسة وحتى عن عموم حياتي، أراها مليئة بالمخالفات والتمرد، مع ما رافق ذلك من إحساسٍ بأني كنت على الدوام فتاة مخيبة لظن الأهل والمدرسة.
اقرأ/ي أيضاً للكاتبة: لمن هذا الشارع؟
اليوم وهنا أعيد اكتشاف تلك الطفلة والمراهقة التي كنتُها، لأرى بأنني كنت طفلة طبيعية ومراهقة عادية، وكل ما فعلته وقلته كان طبيعياً لطفلة أو مراهقة وأن العيب كان في المنظومة المحيطة. كل شيء كان مشوشاً. بينما أنه من الطبيعي، في مجتمع طبيعي، اعتبار أن للفرد الحق أن يكوِّن موقفاً من النظام السياسي، وكما من الطبيعي محاولة المراهق لفت النظر والتعرف على الجنس الآخر، وهي غريزة لديه، فإن كلتا المسألتين كانتا تصنّفان تحت بند الجريمة.

على استحياء سيبدي لي بعض الأصدقاء الألمان هنا، ملاحظتهم بأن التعامل مع العرب فيه بعض الصعوبة. وفي معرض إجابتي فإني لا أدخل في الكثير من السجالات معهم، وأمرر إجاباتي ببعض المزاح من مثل أننا من طينة بشرية خاصة أو أننا شعب الله المختار. ولكن مساءً عندما أفكر بتلك الملاحظة، أجد نفسي ناجية إلى حدّ كبير بالقياس إلى آخرين، وأشعر بالامتنان الشديد أنني وُجدت في أسرة كانت مثلي تصارع المجتمع وحتى النظام الحاكم، وأتذكر على الدوام كيف أنهم حاولوا جهدهم حمايتنا أختي وأنا، قدر المستطاع وتأمين مساحة للتعبير على نطاق الأسرة الضيق. وأرى أنه ربما كان من أهم ما أهّلني لأربي ابنتي على هذا النحو هو قوّة أمي، وقدرتها على تربيتنا لسنوات وحدها ضمن مجتمع بالغ القسوة.
هنا في هذا البلد الجديد يمتلك كل إنسان المساحة التي تمنحه الحق في العيش وفقاً للأخلاقيات والمعايير التي يؤمن بها، وهذا ما يمنح إلى حدّ كبير بعض التوازن، ولذا كانت مهمتي في تربية “زيا” أسهل كثيراً لتكون قوية ومستقلة، وخصوصاً لأكون مثلاً لها، وقدوة إن جاز لي القول، عبر أن ترى على الدوام، أن لا تناقض بين ما أقول وما أفعل وأتصرف في حياتي اليومية. فالطفل عموماً يقلّد ويقتدي أكثر من قابليته لسماع التعليمات والأوامر.
للأسف احتجت لوقت طويل حتى استطعت التأقلم والوصول لهذه النقطة من السلام. اليوم أنا نادراً ما أكذب، وليس مرد ذلك أنني أصبحت شخصاً جيداً. الأمر ببساطة أنني تعبت من التأقلم مع الغير، وأفتش دوماً عن التأقلم مع نفسي فقط.

اشتباه: طبيب ألماني ينشر فيروس كورونا لنحو 200 مريض

بعدما استغرق اعتقاله ستة أيام و2500 شرطي.. رامبو الألماني في السجن