in

“عيد الميلاد في حمص.. ذاب قلبي حنيناً إليكِ” من زاوية يوميات مهاجرة

A Palestinian man walks past a Christmas tree at the Manger Square near the Church of the Nativity, on December 20, 2016 / AFP PHOTO / MUSA AL SHAER

د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
شهر كانون الأول هو شهر الحنين بامتياز. أستطيع أن أقاوم الذكريات خلال بقية أشهر السنة، لكن في هذا الشهر تذوي الشجاعة، وتبوء كل محاولات النسيان بالفشل وخاصة أمام زينة وبهجة الأعياد.

عيد الميلاد في حمص:
لا أعرف لماذا أربط الطقس البارد بالحنين، وكأن الحر يدفعك للتخلص من كل ما يثقلك من ثياب وأفكار ليدور رأسك وروحك في فراغٍ عجيب. أما في الشتاء فأنت تحاول أن تدفئ نفسك وقلبك بالمزيد والمزيد من الأغطية والذكريات. وعلى كل حال فإن فعل التذكر هذا بعد سن الخمسين أو الستين يصبح سهلاً، لكن بلا فائدة، تعود إليك حياتك السابقة حتى من دون أن تستدعيها، وتستحضر أمكنةً وروائح ووجوهاً منسية وتفاصيل لا أهمية لها على الإطلاق.

يحلو لي أن أتذكر هذا الشهر في حمص، المدينة الصغيرة التي عشت فيها ثلاثة أرباع عمري. كانت فترة الأعياد مميزة رغم قلة وسائل الزينة، التي كانت تبيعها بعض المخازن التجارية الصغيرة في حي الحميدية في قلب المدينة القديمة. ابتداءً من القسم الثاني من فترة التسعينيات من القرن الماضي، بدأت مظاهر الأعياد وزينتها تنتشر أكثر وأكثر، حتى اجتاحت حي المحطة بأغلبية سكانه المسيحية. بدأت بزينةٍ خجولة تقتصر في أحسن الأحوال على أضواء شجرة ميلاد صغيرة نراها بصعوبة من وراء النوافذ. وشيئاً فشيئاً بدأت تتعداها لتصبح زينة خارجية جريئة وجميلة، حتى أن أكثر القاطنين في حي المحطة أصبحوا يضعون شجرتين لعيد الميلاد الأولى داخل المنزل والثانية على الشرفة أو في الحديقة.
أحلى نزهاتنا المسائية أنا وأولادي في طفولتهم، كانت تبدأ بحي الحميدية لتفقّد الزينة والألوان، مروراً بالمحطة، حيث كنا نخصص الوقت الأكبر لزيارة شجرة الميلاد الطبيعية الكبيرة في الساحة أمام محطة القطار، ونختتم نزهتنا أمام فندق السفير، الفندق الكبير الوحيد في المدينة، لنتأمل زينته التي كانت رائعة بنظرنا حينذاك.
مع بداية الألفية الثانية بدأت زينة عيد الميلاد في حمص تأخذ طابعاً خاصاً، وأصبحت شوارع المدينة وواجهات مخازنها ترقص فرحاً خلال هذا الشهر. لم تعد الزينة تقتصر على حيي المحطة والحميدية وإنما تعدتها لبضعة أحياء أخرى ذات طابعٍ سكاني مسلم، لتتحول الزينة إلى تقليدٍ اجتماعي يبعث البهجة. أصبحت واجهات المخازن التجارية في حي الدبلان الشهير تتراقص تحت الأضواء لاجتذاب أكبر عدد ممكن من الزبائن. أما المقاهي الحديثة التي افتتحت حول فندق السفير وفي حي الملعب البلدي فقد كان لها النصيب الأكبر من الزينة والزبائن.
اقرأ/ي أيضاً: كمامات ملونة..

كنا نحن أيضاً نضع شجرة الميلاد، وهي شجرة قديمة جداً كنت قد أخذتها من شقيقتي. كانت طقوس وضع الشجرة وتزيينها مناسبة سعيدة لأطفالي، وإن كانت عملية صعبة بل وفي كثير من الأحيان عسيرة وذلك لتكسر أغصانها بسبب قدمها، رغم محاولاتنا البائسة للصقها وتثبيتها بجذع الشجرة بواسطة حبالٍ نخفيها وراء الكرات الملونة، كان انحناءُ الشجرة يزداد عاماً بعد عام، وزينتها تتناقص بالتدريج، ولكن سعادتنا بوجودها كان يغطي على هرم هذه الشجرة.
فعاليات تسلية الأطفال في الأعياد كانت تخيم على حمص الصغيرة؛ في بادئ الأمر كانت حفلات بابا نويل (كما كنا نسميها) تقتصر على مطعم ديك الجن الشهير الذي كان ملتقى لكثيرٍ من عائلات حمص بمختلف أطيافها. مع تطور المدينة ازدادت هذه الحفلات لتشمل أغلب المقاهي والمطاعم التي أنشئت فيما بعد، ولكن حفلة فندق السفير الشهير كانت أكبر الحفلات بلا منازع حيث كان يجتمع كل أطفال البلد.

ومن العادات التي درجت في فترة عيد الميلاد في حمص تلك، استئجار بابا نويل من محل تجاري في حي الحمراء، حيث يشتري الأهالي هدايا أطفالهم منه ويقوم صاحب المحل بالتنكر بزي بابا نويل، والمرور شخصياً على المنازل لتوزيع الهدايا، في محاولة جريئة من الأهالي لإقناع أطفالهم بوجودٍ فعلي لبابا نويل مما يمنحهم بعض الشجاعة ليأملوا بحياة جميلة، وكأنهم كانوا يستشعرون ما ينتظرهم وينتظر أولادهم في هذا البلد. 
اقرأ/ي أيضاً للكاتبة: يوميات مهاجرة 21: طقوس الهرب والهذيان
تشتت العائلات في حمص اليوم، منهم من قُصف منزله وتهدم، منهم من اضطر إلى الهجرة واللجوء لبلد آخر، والقليل ممن تبقوا يعيشون ظروفاً قاسية. ومهما كان من أمر السكان سواء داخل البلد أو خارجها، فقد شغلتهم هموم الحياة ولقمة العيش ومشاكل العائلة والوطن عن التفكير بالأعياد وبهجتها وزينتها.
أما الأطفال الذين ذكرتهم فقد كبروا وتعلموا وانتشروا في بقاع الأرض. منهم من أنجب وصار بدوره يحاول منح السعادة لأطفاله في الأعياد، ومنهم ما زال يجهد لتأسيس كيانه. لكنني أجزم أنه في روح كل امرأةٍ ورجلٍ عاش تلك الفترة في حمص مازال ذلك الحنين مختبئاً كدبٍ قطبي تحت ثلوج النسيان، حتى يستيقظ في كانون الأول حين يقع عليه  جمر الشوق.
لكل أهالي حمص، لمن غادر منهم ولمن بقي، ولكل أطفال الماضي، ورجال ونساء الحاضر وأملنا في المستقبل أقول : كونوا جميعاً بخير وسعادة.

هكذا غيّر “كوفيد-19” قانون الوقاية من الأمراض المعدية في ألمانيا

كورونا وأصحاب المهن الحرة: المهن مَسلوبة الحق وانعكاس الأزمة على الفري لانسرز