in

خوفٌ مؤنث على هامش الحرب والمنفى

اللوحة للفنانة رؤيا عيسى

ياسمين نايف مرعي.

برلين، عاصمة عالمية للحياة وللحلم، ترى كيف لسيدة مترددة في اجتياز منتصف ثلاثينياتها ألا تغرم بها إذ تفتح نوافذها كل يوم عليها مدىً ممتداً عامراً بالغواية! ما الذي يعيق تعلقها بالمدينة مفرطة الجاذبية؟

تستيقظ مراراً إلى أن يطلع الصبح، لتغفو وتستسلم لرغبةٍ بنوم كسول، مغمس برغبات مؤجلة أو بالأحرى متعثرة. صوت القطار يعبر السكة الحديدية جيئةً وذهاباً تحت نوافذها ببرود أوروبي، لا يطغى على ما يصدح في رأسها من ذكرياتِ أصوات صاخبة، تختلط هناك كل صباح برائحة القهوة والتراب المستعيد لهفةَ مياه أمطارِ بداياتِ الخريف.

يمر القطار غير آبه، تماماً كما تعبر كل يوم وجوه أحبة دون استشارة أو فسحة لوداع، يرحلون وهي لم يتسنّ لها أن تنجب طفلاً يشبه أحدهم لتزف إليه الخبر قبل رحيله. تترك لكسلها أن يعتصر الوقت حتى النهوض بجنون كمصابة بلوثة،  تجمع أشياءها كيفما اتفق وتنسى معظمها وهي تستبدل بحقيبة أمس أخرى تناسب ملابسها لهذا اليوم، ثم تتجاسر على ادعاء أناقة الفتيات بربط شعرها الذي لا يسعفها الوقت لتصفيفه.

تتجاهل كلياً السواد الذي تفرده أشعار قصيرة تنبت بإلحاح فوق شفتيها وحول حاجبيها. لا وقت لإزالتها، وللصدق، لا قُبَل في الأفق ولا عناقات، لكنها لا تنسى أن تصب سقيا سريعة في أصص أزهارها التي تخفف عليها وطأة حقيقة هوية المكان (المنفى) بنشر رائحة الياسمين والغاردينيا بما يكفي لاستحضار طمأنينة منازل بعيدة تشتاقها.

في شوارع برلين، تتحرى الثلاثينية المرايا، مع أنها تعلم أن وزنها قد ازداد بشكل مبالغ فيه، في كل يوم تضع الخطط لتخفيف الوزن وتنظيم الوجبات، لكنها تعود وتهمس لنفسها أن كفي عن خداع نفسك، ألست من أنصار نظرية تزجية الوحدة بتناول أقساط من الفرح متمثلة بطبق تجيدين طبخه؟ تغض الطرف عن المرايا الزجاجية الطالعة في واجهات المقاهي والمحال، تبتلع عشرات الغصات معاً اختصاراً للوقت أو هروباً منه.

كان عليها الآن أن تكون أماً تشد بحمالة مربوطة إلى خصرها وكتفيها طفلاً إلى صدرها، لا يهم جنسه، المهم رائحة بشرته ونعومة كفيه الفائضة ودقة أصابعه التي تعتليها أظافر متناهية في الرقة، كمثل ضآلة احتمال أن يحدث ذلك يوماً.

في الطريق/ الطرقات، تخاتل كل الخطط،  كل المواعيد، تنحرف بنفسها إلى متاجر الملابس المستعملة، تبحث عن معادِلاتها بين ألوان تحتل أنسجة وتفرض عليها مزاجها، ليتم فصلها بعناية على عدد كبير من المشاجب وحمالات الملابس. تستسلم هناك لصلحها مع وزنها المتزايد، تستطيع أن تملأ كل فراغ العالم بما شاءت  مما تجيد إعداده من أطباق، ثم تخاتل المرايا وتأتي إلى هذه المتاجر لتجد وعوداً مستدامة بوفرة المقاسات المتتالية في الكبر.

ترى ما الذي دفع بكثيرات قبلها لبلوغ هذه المقاسات؟ كم كن وحيدات، وكم خاتلن المرايا؟ ثم لماذا ترمي الرشيقات أشياءهن الجميلة، لتنتصب هذه الأشياء هنا معلقة بحياد ماكر وخبيث. تتفاعل مع تساؤلاتها، تتحسس ثدييها، وتستعيد في لحظات كل ما قرأته وشاهدته عن سرطان الثدي، حسناً لا بد أن الاستئصال سبب مقنع لرمي ثوب بهذا المستوى من القدرة على الإغواء.

الإغواء.. تتداعى في حواسها ذاكرة آخر عناق، تتساءل ما إذا كانت النساء يرمين ملابس العناقات الأخيرة ليطلقن سراح وعيهن من قيد ذاكرة جائر. لا بد أن تخاتل زاوية أخرى حتى في هذا المكان الذي يحررها من تهربها من وزنها الزائد، إنها زاوية ألبسة الحوامل. تتخيل التخفي عن أنظار الزبائن والباعة لتتحسس موضع الرحم في أسفل بطنها، مرت ثلاث وعشرون سنة، وعقد احتمالات الإنجاب يتساقط منها كل شهر حبة حبة إلى الفناء.

تعود إلى الألوان، وتستدعي دهشتها بها، تحمل ما يسعفها مزاجها على حمله، إلى حيث نوافذها العالية، تغلقها برفق، تتخيله دلالاً، لتتعرى أمام مراياها بجسارة ودونما حاجة للمخاتلة. تستسلم لخدر البهجة الذي تعكسه الألوان على وجهها الذي ما زال جميلاً كما تحاول أن تظن، وعلى قلبها النابض رغبةً في يد حبيب، وشغفاً لاحتضان وليد له رائحة أمومتها الكامنة.

تستعيد وهي تنهي طقوس الهرب والهذيان هذه صور الكثيرات ممن يشبهنها من الوحيدات، الغارقات في قعر الحرب وقَصيّ المنافي، ممن لا يجدن وقتاً لإزالة السواد من فوق مباسمهن، وينتظرن مواليداً برائحة شغفهن وأمومتهن الكامنة أيضاً.

ياسمين نايف مرعي. كاتبة وصحفية سورية مقيمة في ألمانيا

اللوحة للفنانة رؤيا عيسى

 

مواضيع ذات صلة:

رسائل لا جدوى منها

عن بطاقة الحماية المؤقتة في تركيا

حين يرنّ الهواء حولك من القسوة

لا أحدَ يصدّق حزني يا الله!

مجزرة كنيسة تكساس: مسلسل القتل الجماعي مستمر في الولايات المتحدة

سورمانيا راديو عربي-ألماني وأصوات ممزوجة بالحنين