in

حديث لن يكون حزينًا عن الحرب

Syrian Museum - Klimt - artwork by Tammam Azzam
رباب حيدر – كاتبة سورية

 الخذلان من عاديات الحرب. سيكون هذا اتفاقنا البدئي، وقد سبق أن وافق عليه كل من خاض قبلنا حربًا (أهلية، دولية، داخلية، انقلابًا، أو ثورة طال أمدها).

سنخذل بعضنا نحن البشر، سنخذل من قامت عليهم الحرب، وسيخذلنا شركاؤنا في الحرب، إذ “نلعب نحن الملاكمة وهم يلعبون الشَّدة” (ورقات القص الأربعة؛ ستوزع على جهات الأرض الأربعة، ومن يملك شبَّ الكوبا يحق له اختيار نوع السلاح: هل سيختار أسلحة السماء أو الأرض، ورقة الجوكر/البلياتشو تعني أنه ربح فورًا عشر فرق جيش، وبئرَي نفط!) ستخذلنا أخلاق السلاح، وبدورنا سنخذل الأخلاق الفردية والجمعية التي كانت سائدة وقت السلم. وسنخذل أنفسنا أنْ سنتورط بهذا السيل أو ذاك.

سيخذل الرجال نساءَهنَّ وسنخذل رجالنا والأطفال. سنخذل الطبيعة وستخيف أصوات حربنا الطيور المهاجرة، الكدري والزرعي والسمن وبط الشهرمان والترغل والمطوق التركي.. كلها لن تحط رحالها في سوريا هذا العام. سنخذل الربيع والأوراق الجديدة والبذور الخريفية، فلن تجد في محيطها تربة ملائمة للحياة، ربما ستختبئ في بطن جثة ثعلب من بادية الشام. وقليل يعلم ما أجمل ثعالب الغوطة الشرقية وما أهناها وأن لونها كلون الذهب المطفي، وأنها تحب التأمل الأخرق على قارعة الدروب قليلة الخطو، وكأنها كلاب حراسة ساذجة وجميلة كما بشر هذه الأرض.

ستخذلنا الطبيعة وكأنها قد نادت على الآلهة القديمة لتصحو من كتب التراث: فإله المطر يحتجب وحارس الشمس سوف يقربها من الأرض حتى الغليان، ستنتشر الأوبئة التي رميناها ولن تحتملنا الطبيعة بشكل عام.

نحن المخذولين سنبقى في الخارج، أما البشر السعداء، والطبيعة الغالية، والأمل الشفاف الذي كان يغلف الغد، فسيختفون وكأن الحوت ابتلعهم، الحوت نون ذاته، الذي ابتلع النبي حتى حان موعد ولادته من جديد: بعد أن انتهى حزن الأرض.

ستقف الثعالب الذهبية، والطيور غير المهاجرة، والقطط مستحيلة الترويض، والكلاب البرية البلدية التي لم تقترب من الجثث، والأشجار الرمادية القليلة الباقية، صفًا طويلاً وكأنها فائض في هذا الكون.

 

لكننا اتفقنا ألا نتحدث عن حزن الحرب، بل عن اكتشافات إنسانية، إذ من إيجابيات وجودها أن تعلم كم أنت متغير وقادر على التحول والارتقاء. ستعود ملكة الاكتشاف:

كأن تكتشف: أن بنطالاً من الجينز سيحترق بشكل أقوى وأطول من ليترين من المازوت المفقود، والذي دخل في بطن الحوت – طبعًا عليك أن تخرج رأسك من الغرفة كل قليل لتأخذ نفسًا طويلاً نسبيًا وتعود، وأنّ صحنًا من الستانليس الذي كنت تكره رؤيته على رفوف مطبخ والدتك (ولا أمل لكسره، فتصر ألّا تمس سوى الصحون الزجاجية) تستطيع أن تضع فيه كحولاً طبيًا وتشعل فيه فتيلاً من قماش قطني سميك (قطعة من بنطال الجينز السابق ذاته) وسينير أطول من أربع شمعات حرب، شموع الحرب هزيلة سيئة الرائحة وسريعة الاحتراق.

غريزة البقاء ستضحى أقوى وأكثر حدة ونقاءً. ستجترع معجزات لم تكن تعرف أنك قادر عليها قبيل الحرب، كأن تشعر بأن القنابل لن تقتلك فلا تقتلك، أو أن مكروها سيحدث لك فتصاب بشظية مارقة في ذاك اليوم، ولا تموت، أن تتوقف مجبرًا عن الطعام عدة أيام ولا تموت، أن تشاهد شخصًا على وشك الموت جوعًا ولا تموت، ألا تموت إلا كحالة اضطرارية جدًا حتى لو رغبت بذلك!

وتحسد، حسدًا حقيقيًا أسود وكالحًا كسحر الجان، موت الرصاصة السريع، أو الخروج من هذه الأرض المباركة!

سيقف كثير من البشر بلون الأرض، مخذولين وعصيين على الموت، مع معظم الأشجار الخالية من طيورها، صفًا طويلاً كفائض في هذا الكون الذي لم يبتلعه الحوت.

 

لكننا اتفقنا ألا نتحدث عن الحزن، فلنتحدث عن الحب، سيكون في زمن الحرب كثير من الحب كذلك! في لحظة الانقلابات الكبرى كل شيء يصعد ليصل إلى أقصى مجال:

الحب المتوهج بإثارة الحرب أقوى، وإن كان أقصر أمدًا من ذاك المتوهج في الربيع أو بسبب الهرمونات، أقول أقوى من الحرب، وأسرع من تغيير الفرق العسكرية لأسمائها، وأسرع بكثير جدًا من عمليات الأمريكان العسكرية، ومناورات الروس، وتغيير فرق القنص التركية على الحدود.

سيضطر العشاق إلى الهروب مع بعضهم، فلا وقت للرجال لمناقشة الأهل، أي أهل كانوا، فهم على الأغلب جنود -في هذا المعسكر أو ذاك-  قبل أن يموت أحدهم في خندق تعثر فيه فجأة. لم يملك رفاقه الوقت لإخباره بأنهم حفروه، أو أن يسقط في يد جنود معسكر ثالث لم يعلن متعهدو الحروب اسمه بعد.

ستضطر المرأة إلى الزواج السريع برجل؛ تضمن لها السمسارة ومكالماته المصورة الليلية الطويلة قدرته على إنهاء معاملة لم الشمل.

سيضطر الرجال لترك زوجاتهم والقفز في الماء للمرة الأخيرة، قبل أو بعد أن تصعد هي في قلب دولاب مطاطي لن يغرقه البحر إن لم يتجاوز ارتفاعُ الموج خمسة أمتار، وسرعته أكثر من عشرين عقدة.. لمسافة كيلومترين فقط!

سيترك الرجال النساء لجنس سيتكاثر كالطفيليات: حفلات جنسية كنا نسمع عنها خارج حدود بلدنا “الآمن”، كما في أوروبا “الماجنة” وأمريكا التي ضيعت بوصلتها. ستعلن النساء فض أغشية البكارة بأصابعهن ويعرضنها ثورة على “يوتيوب”، ولقلة الأدوية وغلاء الأطباء؛ ستشتهر القابلات مرة أخرى، والإجهاض باستخدام قضبان الرمان وأبخرة المياه المطيبة بالقرفة، والأدعية والطلاسم الحجرية التي ظهرت على وجه الأرض أثناء حفر القبور.

ستدعم منظمات العالم المتحد مثليي الجنس أكثر مما سيدعمون النساء والأطفال، وسيهملون الرجال متعبي الروح. وسيتلقفون مرضى الأمراض المنقولة جنسيًا أكثر مما سيقدرون على تدبر أمر الأطراف المبتورة (ولن يبتلع الحوت نون أيًا من هؤلاء!).

سيغادرنا الرجال إلى موتهم السريع وإلى شهوتهم الأسرع. ولن يكفوا عن عشقنا. لكن المرأة في زمن الحرب بضاعة كاسدة أكثر من رغيف خبز يابس، وفي لحظات، يمكن أن تكون أقل دهشة من ربطة من الفجل الأحمر الكبير!

ستنال المنصات السورية النسوانية -المسؤولة عنا نحن النساء اللواتي أتعبتهن الحرب- جائزة في حسن السير والسلوك، بشرط أن يتقنّ اللعبة فلا يرفعن صوتنا ولا يخبرن أخبارنا. فقط صور فروجنا المغتصبة ومناظر الأطفال منفوخي البطون العراة.

وسنقف نحن النساء والأطفال ومبتوري الأطراف والأشجار الخالية من طيورها، صفًا طويلاً  كفائض في هذا الكون الذي تلعب به الحرب

 

لكننا اتفقنا ألّا نتحدث عن الحزن، ستقدم لنا الحرب فهمًا للعالم لم نعلم أنه لدينا، سنستقرئ ارتفاع أو انخفاض الدولار كما لو قارئ في بورصة نيويورك: كلما أغلق معبر سيرتفع الدولار، وإن فتحت سفارة سينخفض بعض الشيء. بعد لقاءات السفراء السرية، والتي يتابعها كل الشعب ومحطات الأخبار، وإن سار اللقاء على خير، ستزداد في السوق الخضار.

اللاجئون المتجهون جنوبًا أرخص ثمنًا لدى منظمات العالم المتحد من اللاجئين المتجهين شمالاً. المرتزقة القادمون من الغرب أقل خطرًا على المدى القريب من المرتزقة القادمين من الحدود الشرقية. المحاربون المتسللون أكثر دموية من المحاربين القادمين بالطائرات، وكلاهما سيرفع سعر الدولار ويتعب سوق الخضار.

استيلاء فرقة على قطعة أرض في البادية السورية سيعني توافر المحروقات للعسكريين من هذه الفرقة، وبالتالي منفعة لبعض المدنيين من الأقارب والمعارف، والعشيقات كذلك.

كل المشاريع الصغيرة المدعومة تتحول قبيل لحظة القمة إلى مشاريع نصب واحتيال، وبالخبرة ستتعلم كيف ترتقي في المشروع وتتركه قبيل القمة. وأن المال القادم من الخارج إلى الخارج لن يحمل لك غذاء ولا أمانًا، ولن يحمل عنك تعبك ولا حتى صوتك. سيبقى للذين في الخارج ويدفعون منه القليل جدًا ضرائب للبلدان المضيفة، وستنتج عنه بعض المشاريع الثقافية، ستعرض خيباتنا على شاشات مسطحة كبيرة في المؤتمرات، وعلى هامش مهرجانات السينما والمسرح. أي أن لا علاقة له بأسعار المحروقات هنا، ولا بسوق الخضار.

مهلاً..

يكفي حتى هنا، تعبت من إيجابيات الحرب وسوق الحب وأخبار الدولار. ربما سأعود للوقوف في الصف الطويل مع الأشجار: فائض الكون الذي ابتلعه حوت ورسمه فنان تشكيلي كان مجهولاً قبيل الحرب بنهار، وستعرض اللوحات في برلين، في أكبر معرض في برلين: “معرض من أجل الحوت نون والأشجار”.

مريم ميرزخاني، أول إمرأة تفوز بميدالية فيلدز في الرياضيات

لحظات قليلة لنساء كثيرات