in

“هدوة“ لديما أورشو… عن الهدهدات، والهوية، والروابط التي لا تُفصم

جمال منصور

إن أعلى أشكال الفنون هي تلك التي تتمكّن من مخاطبتنا جميعاً، والتي تتمكّن من أن تتجاوز الحدود الطبيعية منها أوالمصطنعة.

وتعيننا على إدراك تلك الروابط التي تربطنا ببعضنا البعض. تلك الفنون التي تتسّم بنفس القدر بعالمية النداء والانتشار، بقدر بقائها متجذرةً في لغتها الثقافية الخاصة بها، بلهجاتها الخاصة، وبشِعرها وشاعريتها الخاصّتين. هذا النمط من الفن نمط صعب الخلق، لأنه يتطلب من البراعة والمقدرة بقدر ما يتطلب الحس العالي والحساسية.  إن عملية إبداع أغانٍ محلية إلى درجة أنها تخاطب الصوت الخفي الذي يعيش بدواخلنا، ثم جعله يخاطب في نفس اللحظة جمهوراً عالمياً لهي تحدٍ وتحدٍ صعبٍ للغاية، كذلك.

إن هذا التحدي هو بالتحديد ذلك الذي يتصدّى له مشروع ديما أورشو، “هدوة.“. فاختيار أورشو للـ ”هدوات“—أغاني التهليلات التي تغنيها الأمهات، كما تسمّى باللهجة المحلية لمنطقة دير الزور، في شمال شرق سوريا اختيار موفّق من حيث كونها لغة التأثير وبديهياً في نفس الوقت. فهذه الـ ”هدوات“ واحدة من الأساليب التي تنقل العواطف الأقرب والأكثر بديهيةً إلينا جميعاً: الحب الأمومي، والرعاية، والحماية. إنها تهويدات تم استخلاصها من نبع تاريخي عميق وطافحٍ بذاكرة الأحزان الناجمة عن العديد من الأخطار غير المتوقعة، ومن المخاوف الكامنة في كل منعطف. هذه المخاوف هي ابنة الحقيقة المفجعة للحروب والنزاعات الأهلية، والتي بدورها ولّدت حالةً من عدم اليقين والقلق، ظلّ يمتزج باستسلام كلٍ من الأفراد والمجتمعات إلى شعورٍ طاغٍ بالعجز عن وقف الأخطار الداهمة. لقد كانت ”الهدوة“ في ظل هذا الواقع تمثّل خط الدفاع الأخير، والسلاح الوحيد المتبقّي للأمهات لحماية أطفالهن من شرور العالم وتقلّبات الأيام والظروف. لقد كنّ يغنينها من القلب، لعلها تهدئ من روع قلوب وعقول الأطفال المرتجفة خوفاً، وتزرع فيها بعضاً من الاطمئنان والسكينة. لكنها كانت كذلك تمثّل، بالقدر ذاته، هدهدةً لتهدئ بها الأمهات مخاوفها الوجودية الخاصة بها أيضاً محاولةً حزينةً ونبيلةً لتطهير الروح المتعبة والمنكسرة، عبر الموسيقا.

تنبع ”الهدوات“ في هذا الألبوم من ذلك التمازج الفريد للعديد من التقاليد الموسيقية، التي تشكّل بمجموعها جملة التقاليد الثقافية لكلٍ من سوريا وبلاد ما بين النهرين. بعض هذه ”الهدوات“ هي مؤلفات أصلية لـديما أورشو، صيغت على أساس هذه التقاليد التي تعرفها ديما عن قربٍ وتتفاعل معها بعمق غريزي. تعتمد هدوة ”يا دايم“ على تهليلٍ تقليدي من تراث منطقة حوران في جنوب سوريا، أما هدوة ”حمودة“ فهي من تراث منطقة الساحل السوري. وأما القطعة المسمّاة ”هدوة“و التي يحمل الألبوم اسمها هي من تأليف ديما أورشو متأثرةً بتراث منطقة دير الزور الفولكلوري, هدوة ”نيني“ هي تهليلة دمشقية من القرن التاسع عشر، وأخيراً فإن قطعة ”رحلة إلى الغوطة“ هي مؤلف جديد بالكامل.

وعن هدوة ”نوم حبيب“ فهي قطعة من تأليف جابرييل أسعد ومستوحاة من التقاليد الآرامية، بينما هدوة ”لاي-لاي“ هي تهليل من التراث الأذربيجاني القديم. وهدوة ”نانا“ هي تنويع على قطعةٍ من تأليف مانويل دي فاينا بنفس العنوان، واردةٍ في عمله (سبع أغان شعبية إسبانية)؛ في حين أن ”الدوار الثالث“ هي عمل حديث من تأليف مانفريد لويشتر، قام بتأليفه علّه يحاول تهدئة مخاوفه الوجودية الناجمة عن حادثة الإعدام الرهيبة حرقاً للطيار الأردني عام ٢٠١٥، على يد تنظيم داعش. ومما يضيف المزيد من التميّز والفرادة إلى هذه المجموعة هو أن هذه ”الهدوات“ مغنّاة بعدة لغات: الآرامية، إضافةً إلى مجموعةٍ من اللهجات المتنوعة من كافة المناطق السورية المختلفة، والإسبانية، والأذرية بالإضافة إلى قطعتين صوتيتين. على أن جميع هذه القطع تحمل كذلك بصمة ديما أورشو الخاصة: ليس من خلال أدائها الصوتي الفريد وحسب؛ وإنما كذلك من خلال خياراتها الخاصة كملحنة وموزّعة موسيقية. فديما أورشو تقوم بمقاربة التراث باحترام وتهتم بتسليط الضوء على الطابع الأصيل للقطع الموسيقية، في نفس الوقت الذي تقوم بتقديمها في قالب موسيقي عصري، وجذاب، وعالمي.

إن ألبوم ومشروع ”هدوة“ ليس أقل من بيان موسيقي وثقافي يأتي في اللحظة الثقافية والشعورية الملائمة والمناسبة تماماً لعصرنا وزماننا الحاضر الذي نعيشه الآن. فزماننا نحن أيضاً، كما كان زمان السابقين علينا، هو كذلك زمان عصيب.

 

سيتم إطلاق الألبوم في ألمانيا يوم 5 نيسان/إبريل وفي باقي دول العالم يوم 17 نيسان/إبريل

اقرأ/ي أيضاً:

ديما أورشو ، في صوتها الكثير مما نحب أن تكون سوريا عليه

نصف المهاجرين تقريباً يخفقون في اختبارات اللغة الألمانية

جرَت رياح الانتخابات التركية على غير ما تشتهي سفن إردوغان