in ,

عن الفنون التي لا تنام في المنافي! آراء ثلاثة مبدعين سوريين في الفنون وتغييراتها في المنافي

اللوحة للفنانة ريم يسّوف

خاص أبواب

 

تختلف رؤية كل مبدع عاش المنافي لحقيقة تغير إبداعه، ولإن كان هناك تغيير أصلاً. البعض يقرّ بحقيقة التغيير ويتلمّس تفاصيله، والبعض يشعر به ولكنه لا يقدر على التعرّف على حقيقة التغيير ، والبعض يرفض فكرة التغيّر أساساً باعتبار أن الإبداع لا يتأثر بواقع المبدع.

للغوص أعمق في هذه الظاهرة وعلاقة الإبداع بالمنفى، وجّهنا ثلاثة أسئلة لثلاث مبدعات ومبدعين سوريين يعيشون في المنفى، وكانت الإجابات مختلفة.

السؤال الأول يدور حول قناعة المبدع بأن شكل فنّه تغيّر في المنفى، أو تغيّرت رؤيته لفنه:

الفنانة التشكيلية ريم يسّوف

الفنانة التشكيلية السورية “ريم يسّوف” ترى أن تغييراً كبيراً طرأ على عملها الفني، خصوصاً في علاقة اللون والتكوين، تشرح ذلك قائلة: “العمل الفنّ يتأثّر عميقاً بالوضع النفسي للفنان وبالمكان الذي يعيش فيه، ليس كموضوع فحسب بل تقنياً أيضاً، ويلعب الشعور بالمسؤولية دوراً كبيراً، فأنا أحاول إيصال الصوت من خلال الفن، ولفترات طويلة لم أستطع التعامل مع أعمالي الفنية إلا باعتبارها مسؤولية أخلاقية أمام قضيتنا كشعب سوري”.

أما الروائية السورية “مها حسن” فترى أن الفنان يتأثر بالمنفى كما يتأثر النبات الذي يُقتلع من أرض ليُزرع في أخرى. الأمر يحدث مع كل إنسان لكنه يكون بدرجة مكثّفة بالنسبة للكاتب أو الفنان، بسبب حساسيته الزائدة من طرف، وإحساسه بالمسؤولية وضرورة رصد تجربته ومقاربتها مع تجارب الآخرين من طرف آخر، فهي ترى أن على الفنان بالعموم تقديم الخبرات والعون للأشخاص الذين يشعرون بتناقضات المنفى، ويصعب عليهم التعبير عنها.

وتضيف مها: “من المستحيل برأيي ألا يتأثر الفنان بالبيئة الجديدة التي يدخلها، والخبرات الجديدة سواء كانت إيجابية أو سلبية. وبالنسبة لي، كان المنفى بمثابة انعطاف قوي في كتابتي، على صعيد الموضوع خاصة، وأحياناً يبدو الأمر متناقضاً، لأن المنفى جعلني أصبح أشد ارتباطاً بالقضايا والمشاكل التي تدور في بلدي الأم، ولم أكن أوليها أهمية كبيرة حين كنت هناك!”.

الشاعر السوري “عارف حمزة” يعتقد بأن معرفة التغيير الذي طرأ عليه وعلى كتابته في المنفى ليست من مهامه، بل ربّما هي مهمّة النقد والنقّاد أن يكتشفوا إذا ما كان ثمة تغييّرات قد استجدّت على كتابة كاتب ما، وذلك من خلال دراسة ما كتبه في المنفى سواء على مستوى الشكل أو المضمون، وما على الكاتب إلا الكتابة، لكن مع ذلك يردف عارف مؤكداً: “إذا كنتُ قد شعرتُ بأننّي أعيش في المنفى خلال عيشي في بلدي، فذلك المنفى لا يُمكن مقارنته، بأيّ حال، بهذا المنفى الذي نعيش فيه الآن”.

وفي الجواب على سؤال حول شكل التغيّرات التي قد تطرأ على الفنان وعمله في المنفى:

ترى التشكيلية “ريم يسّوف” بأن تغييراً كبيراً طال فنّها، يتعلّق بالمكان واختلافه وتأثيره على اللوحة، وتشرحه على الشكل التالي: “خلال إقامتي لثلاث سنوات في الأردن ظهر الفراغ في لوحاتي بمساحات كبيرة وساكنة للون أبيض ثقيل أمام موضوعة أطفالي الذين يبحثون عن ظلال الأصدقاء.

كأن الأرواح الحائمة ماتزال متّصلة بمكانها الأساس، وتجول بين أحبائها الغائبين الحاضرين. فمنذ معرضي في الأردن (حوار) وإحساس البعد يظهر علاقتي بالآخر من خلال اللوحة بشكل أكثر وضوحاً، وذلك إلى أن انتقلت إلى فرنسا فأثّرت خطوط معمار المدينة الفرنسية (روان) ودفئها على لوحاتي، وخاصة عند استحضاري لمشاهد متطابقة لمدينتي دمشق وحلب القديمتين، فكان للمكان هنا حضوراً أقوى عزّز إحساس المنفى وجعله أكثر تعقيداً أمام هذه العاطفة المستحضرة يومياً، وظهر بتراكم التفاصيل، كأنه ترتيب لكثافة ذاكرة كانت بالمقارنة مع ذاكرة حالية أعيشها، وظهر بشكل مباشر خلال معرضيّ (حكاية قبل النوم) و(حصار)، مما جعل للذاكرة مشروعاً أعالجه وأترجمه من خلال البحث بتقنيات خارج سطح اللوحة لتحويله إلى الفراغ أيضاً”.

الروائية “مها حسن” تؤكد بدورها على حجم التغييرات الكبير الذي يطال الفن في المنفى، فالابتعاد عن المكان يجعلنا نراه بطريقة أكثر موضوعية، ويمنحنا القدرة على تحليله وتفكيكيه، عبر توسيع مساحات الرؤية التي تضيق هناك في البلاد بسبب الالتصاق بالمكان. وتضيف شارحة: “كان لوجودي في فرنسا ومساحة حرية التعبير المتوفرة لدي، وغياب كبير للرقابة الجمعية من جهة، وكذلك الذاتية، دور في تطوّر مساحة معالجتي لمواضيعي، ومنحني مرونة في رؤية شخوصي ومعاناتهم من عدة زوايا، كما أتاحت لي رؤية خصومي بشكل مختلف وجعلهم يعبّرون عن أنفسهم.. المنفى باختصار حرّرني من التشنج والرؤية الأحادية، ومنحني الكثير من الهدوء والاسترخاء لفهم نفسي والآخر”.

الشاعر عارف حمزة

أما الشاعر “عارف حمزة” فيؤكد من جديد أن الكتابة بالنسبة له غير معنية لا بالتغيير ولا بتفاصيله التي من الممكن أن تطالها في المنفى، ويضيف شارحاً: “أنا والكتابة لا نحسب مقدار الربح أو الخسارة، لا نفكر بتعكير علاقتنا، أو إقلاقها، من خلال هذا الفضول الذي يُخطئ فيه النقاد خلال دراساتهم الحشريّة؛ في إسقاط ما هو غير شخصيّ على أشياء شخصيّة بحتة، أو العكس، قد لا تلتفت لها الكتابة خلال عيشها مع الكاتب. العلاقة الشخصيّة هي هكذا: نتابعها ونتابعها، ونجد الوقت المناسب لإعادة متابعتها، دون تذكير بتلك الفترة التي ماتت فيها الرغبة”.

ولكن هل يقدر الفنان أن لا يتأثر بعيشه في المنفى؟!  

برأي “ريم يسّوف” لا يمكن ذلك، فالفنان يترجم بشكل طبيعي ما يعيشه على المستوى الشخصي والعام، والمنفى هو أحد أكبر المفاصل في تجربة الفنان، إن كان على مستوى التقنية أو الموضوع، حتى وإن حاول عزل نفسه ظناً منه أنها الوسيلة الوحيدة لحمايته من التأثر، لكن انعكاس المكان والثقافة المختلفة لها تأثير على العمل الفني، تدعوه “ريم يسّوف” التطور الإيجابي للعمل الفني، فالفنان بحاجة لعين أوسع. وإن كان للمنفى تأثير سلبي نفسياً، فعمل الفنان هو مأواه وعلاجه الوحيد ليتوازن أمام واقعه المتغير .

الكاتبة مها حسن

أما “مها حسن” فتقول إن المنفى أضاف لها الكثير، وجعلها تكتشف فضاءات جديدة ونماذج بشرية مهمة أثرّت كثيراً في كتابتها، ولكن من ناحية أخرى قد يخلق المنفى أحياناً مظلومية خاطئة في حال لم يتمكن الفنان من حلّ إشكالية علاقته مع الآخر، فيتحوّل إلى ضحية لا تكفّ عن التبرم والبكاء وتوهّم الأزمات، ومعاملة المكان المتروك على أنه الفردوس المفقود! هناك خيط خفيف يفصل بين تعريف الأمكنة، بين شيطنتها أو تأليهها، والفنان المتمّكن فقط يمكنه أن يكون عادلاً في تقديم هذه الخبرات بموضوعية ونزاهة.

في النهاية يرى “عارف حمزة” أن لا مجال لمقارنة هذا المنفى بذلك المنفى، ويشرح هذه الفكرة قائلاً: “فأنت في المنفى لا تستيقظ على أصوات الباعة وشتائم الأمهات والآباء، ولا يكسر أطفالٌ نافذتك بالحجارة أو كرات القدم. لا فقراء ولا أرامل ولا مطلّقات! حتى اللغة التي تُريد أن تُصبح بسيطة تخذلك. تستيقظ في الصباح وتتنفّس هواءً يُعطونه لك مع المساعدات. هذه أجزاء بسيطة من منفى كبير، تجعلك، ببساطة، تفكر بها، ثمّ تغزو بها علاقتك مع الكتابة. علينا أن نسأل الكتابة نفسها، وليس الكاتب، عن الذي يفعله المنفى بها. يستيقظ الكاتب في الصباح، أو في وقت آخر، بينما الكتابة لا تنام في المنفى!”.

 

اقرأ/ي أيضاً:

في تبديل المنافي والاغترابات / كوابيس لاجئ سوري 1

المنفى الوحيد كان الوطن… كوابيس لاجئ سوري 2

ما يعيشه السوريون اليوم، هل هو مفترق طرق؟

أبواب ألمانيا تُقتح أمام أصحاب الكفاءات بحسب قانون الهجرة الجديد

في الأولد ترافورد: ليلة نيوكاسل يونايتد أسقطت الكثير من الأفكار…