in

رسالة وُجِدت في حقيبةٍ مسروقة

سوزان علي. كاتبة وشاعرة سورية
اسمي قاسم رضوان، في الخامسة والثلاثين من عمري، انتحرتُ في الأمس.
كنت ُأعملُ حارسًا في الصباح، أقف ثماني ساعات أمام باب البنك، أفتش البشريّة وهي تدخلُ كفقاعة كي تودع أو تقبض  ثمن حياتها، وأتلمس قشور اللب في جيبي كيف تصبح رطبة دبقة غير صالحة حتى للجيب، مع أنني أخبرت زوجتي ألف مرة أن تغير الدكان الذي يبيعها هذا اللب دون جدوى، ولكن كيف ستغيره، يجب على الإنسان أن  يملك دفترديون واحد، يحمل تاريخ جوعه بالساعة والثانية والدقيقة، كان جدي عبد الرحمن يقول: “لا توزع حاجتك في الدنيا”

وعليه يجب ألا يسمع بحاجتنا أحد خارج دكان الحي، أو عدد صفحات اسمنا في ذلك الدفتر.
كنت أهذي مع نفسي وأكسر بمشقة اللب بين أصابعي، والزبائن تدخل منفوخة وتخرج منفوخة.
وكنت أتخيلهم عندما يداهمني النعاس في ساعات الظهيرة، بأنهم مناطيد ملونة، تحمل الطعام والنقود والذهب، إلا أن البرق يلمع فجأة، والرعد يدوي، فتتطاير أطايب الحياة وتحترق وسط السماء مع أصحابها.
أما في ساعات الصباح الباكر، فكنت أراهم مجرد لصوص، لا يعرفون عن الرفاهية أي شيء يذكر، فكرة أنهم سارقون يهون علي أشياءً كثيرة.
أتخيل أحيانا أن يسقط مبلغ كبير من ظرف أحدهم وهو يهمُّ بركوب سيارته، لكنهم لم يضيعوا حتى الان قرشا واحدا، وهل سمعتم مرة عن ضياع نقود أمام ساحة بنك؟
إنهم يمسكون بها كما لو كانت أحد أطرافهم، قبل حتى أن يضعوا قدمهم داخل السيارة، تكون الحقيبة أو الكيس من لحم ودم.
مع أن صديقي بائع الدخان المهرب الذي كان يبسط بضاعته قرب بنكٍ آخر، كان يحدثني دوماً،  بأن الزبائن هناك يشترون منه دوماً ويتركون له إكرامية عظيمة، ولولا هذه الإكرامية لمات من الجوع هو وأطفاله.
اقرأ/ي أيضاً: المخرج السينمائي الذي نسي صلاته..

إنها أوقات مزرية، عندما انتهي من عملي وأعود أدراجي إلى محل بيع الدجاج الحيّ، حيث كنت أعمل مساءً في ذبح الدجاج ومن ثم رميه في الآلة المخصصة لتنظيفه من الريش، ثم تقطيعه جيدا، أفصل النترات والرقبة والظهر وأضعهم جانبًا، كي أبيع ما تبقى من جسد الدجاجة، إلا إن كان يرغب الزبون بدجاجة كاملة، وهذا النوع من الزبائن لا يأتي إلا في ساعة متأخرة من الليل، بعد أن سمح له الوقت بقضاء وقت مع معدته، أو في ساعات الصباح الباكر حيث النساء العاملات اللواتي يرين الدجاجة في منامهن كل يوم.
أعود آخر الليل إلى بيتي واسمع صوت زوجتي وهي تصرخ بغضب: ليتني دجاجة، إنها تعيش أفضل مني.
فأتذكر الدجاجة التي كنت أذبحها، كيف لزوجتي أن تتمنى هكذا أمنية، ربما يكون معها حق، فأنا تمنيت كثيرا فيما مضى أن أكون صقراً يقطن أعلى الجبال، وقفت أغسل وجهي واكتشفت بأن صنبور المياه عاد إلى عطله مجدداً، غسلت وجهي من نافورة صغيرة صنعها العطل، ورأيت زوجتي في المرآة وقد تحول  جسدها إلى دجاجة وكدت أذبحها لولا أن ناولتني المنشفة وصرختْ مجددًا.

تزوجت في الثامنة عشر من عمري، على وقع الطبول ومباركات العشيرة، وكنت قد تأخرت في زواجي بسبب خدمة العلم، لم أعرف وجه زوجتي سوى في ليلة الدخلة، كانت هادئة وخجولة أكثر مني، ولم نعرف كيف تحدث هذه الأمور، كي تبدأ الزغاريد بالانطلاق مرة أخرى أمام باب غرفتنا، ووقتها مدتنا أمي بسطل وأواني كي نغتسل، ثم جاء طبق العشاء، وبعدها ذهب الجميع إلى نومه وبقينا أنا ورحاب نحدق في بعضنا ونأكل منسف الأرز الشهيّ، الذي لم أكن أعرف طعمه إلا في المناسبات.
وانتقلنا إلى المدينة، بسبب الحرب التي دارت في قريتي، وحرقت الأرض والنهر والحظائر، ولم تبقِ على متسول واحد في الشارع، حتى المتسولين نزحوا، آه كم أفكر بالحاج عبد الغني، أين صارت أراضيه الآن؟ كان يحب أن يشحذ على أغنية أم كلثوم “الأطلال”.
أنجبت طفلتين جميلتين، ومن يومها وزوجتي لا تتوقف عن البكاء لأنها كانت تريد صبيًا تفخر به وتغيظ سلفتها التي حبلت بأربعة بطون من الصبيان، ولم يك الأمر يعنيني شيئًا البتة، لكن زوجتي جعلت البيت عبارة عن مجلس عزاء، كانت تظن بجدية وثقة مفرطة أنني سأتزوج عليها، ولولا وضعي المادي لكنت هجرتها منذ زمن.
أخرج صباحا على شتائم تذوب مع فنجان الشاي المخمر، وأعود ليلاً مع شتائم أقسى في ملح العشاء، لا أصدّق بأن رأسي هو رأسي، وبأنني صرت فوق وسادتي، النوم كان هو الموت بالنسبة إلي، أن اذهب إلى النوم، يعني أن أذهب براحة واحترام إلى قبري.
اقرأ/ي أيضاً: سيرة قضيب 3- أنا متحرش.. أنا موجود

بدأ الفصل الدراسي، وبدأت معه النغمات الشاذة عن اللحن، المؤونة والثياب والدفء والشتاء.
في صباح مزدحم على غير عادته، إنها نهاية السنة، والجميع يتجهز لسحب نقوده من البنك إما للسفر أو تمضية عيد رأس السنة في مكان مبهج مع الأصحاب والخلان وبعيداً عن البيت وقرفه.
كنت أكنس عتبة البنك في وقت مبكر، حاولت أن أكنس السنة القديمة وأعدل عما كنت قد خططتُ له هذا اليوم، لكن أفكاري كانت متجمدة لم أستطع كنسها أو إبعادها مسافة شبر واحد.
في منتصف الظهيرة، بدأت أعداد الوافدين للاطمئنان على نقودهم تنخفض، وحان الوقت كي أقبض على ما حلمت به منذ أن خلقت، رأيته يرتدي سترة كحلية، حذاؤه من الشاموا، وسيارته أضخم من حينا في القرية، رأيته يلقي التحيات على الموظفين ويدخل كوحش باحة الانتظار، وانتظرته كوحش مكسور قرب سيارته، وبدأت أمسح زجاجها وأنفخ انفاسي في المرايا الجانبية، وعندما خرج منتشيًا تلوح  في يده حقيبة سوداء، وعلى فمه ابتسامة خُلقت معه منذ الولادة، شحذتُ الماضي في يدي، ولسان زوجتي وجوع طفلتيّ، وعندما صارت يدي حادة تلمع، نزعت الحقيبة من يده وركضت كعاصفة، ولم أرَ أي شيء أمامي، غابت البيوت والبنايات وإشارات المرور والسيارات، غاب العالم في عيني، وحدي أنا والحقيبة نحلق في هذا الكون، كنت الصقر الذي تمنيته.
في الساعة الخامسة تماما، وتحت شجرة يابسة على أطراف المدينة قادتني إليها خطاي، انتصب قضيبي دون سبب، انتصب بقوة، ولو رأته زوجتي لآمنت وصدقت بزواجي من ثلاث نساء ليس فقط امرأة واحدة، فتحت الحقيبة، دمعت عيناي، وسال المني دون إرادة مني أو شعور، وأخذت السم من جيبي، كان عالقا ببقايا اللبّ الرطب، ضحكتُ كثيرًا، وأنا أرى حلمي يتغمس مع الدموع والمني، ونمتُ إلى الأبد، وفي أذني تضج اصوات كثيرة أذكر منها صوت رصاصة وشتيمة مدوية. 

حق اللجوء للفارين من الخدمة

حق اللجوء للفارين من الخدمة العسكرية: في سهولة الانخداع واستسهال الخداع!

استقبال اللاجئين من اليونان: ألمانيا تستقبل آخر دفعة من اللاجئين من جزيرة ليسبوس

استقبال اللاجئين من اليونان: ألمانيا تستقبل آخر دفعة من اللاجئين من جزيرة ليسبوس