in

هل هي الديمقراطية، أم أن الأمر أشدّ خطورة؟

29413470 - men balanced on seesaw over a single man

روزا ياسين حسن*

عبر تاريخ الفكر الإنساني اعتبر “رأي العامة” بمثابة حثالة الفكر أو فضلاته، بسبب كونه خاضعاً للأهواء الشخصية وللأمزجة الاجتماعية ولتباينات الدواخل الإنسانية وتبدلاتها. الأمر الذي جعل اليونانيين، ممثلين في أفلاطون وأتباعه، يعتبرون الرأي (doxa) عنصراً حقيراً ثانوياً في القرارات العامة مقابل “الحقيقة الجليلة”، تلك التي لا تمتلكها إلا النخبة العارفة، والتي كان لها وحدها الحق في القرار، فيما لم تملك الجموع ذلك الحق لأنها ببساطة لم تمتلك أي شيء من المعرفة (الحقيقة).

اليوم في المجتمع المعاصر يبدو الأمر برمته مختلفاً، فسبر الآراء، بمعنى إظهار (رأي العامة)، راح يتخّذ حجماً تتزايد قيمته يوماً بعد يوم في مقابل تراجع (رأي النخبة)! وصار بإمكان الرأي العام في المجتمعات الديمقراطية أن يغير حكومات، يخلق نجوماً ويخفت ضياء أخرى، يصنع مبدعين ويطمر مبدعين. وثمة نزوع، لا يمكن التكهن بمآلاته، أن يُسند للرأي الحقيقة الأوحد برمتها! وعلى حد تعبير “كارلو فريشيرو” ففي المجتمعات القائمة على مفهوم الحقيقة نجد المعرفة حكراً على فئة قليلة تبقى محصورة بها، وبها فحسب تتغير وتتطور هذه الحقيقة، أما في مجتمعات (السبر- ديمقراطية) فتطابق السلطة والمعرفة مع (الأغلبية) وتتماهى بها.

بناء على هذه التغييرات الجوهرية صارت معايير “الحقيقة” كمية لا نوعية، فالقاعدة المتبعة هي المعدل الإحصائي، وبهذا تخلّت المعارف التقليدية عن مكانها لفائدة السبر والتسويق، ولم تعد العناية موجهة إلى النخبة العارفة بل العناية، كل العناية، تتركز على رأي الشارع، ولنقل على رأي المتفرج والقارئ والمستهلك بالعموم. العناية تتوجه إلى الجموع لكسب رأيها الإيجابي (وربما السلبي في وضع مغاير) في منتج أو حكومة أو نص أو سلعة أو قانون أو قرار مصيري. والمنفعة المتبادلة أضحت بين السلطات والعامة وليس بين النخبة والسلطات. لنقل إن القوة اليوم هي للأكثر، بدل أن تكون للأعرف، القوة أضحت في العدد وليست في المعرفة. هذا التغير الجذري الذي تبدّى في انعدام المسافة بين الرأي والحقيقة، تبدّى أيضاً في النظر إلى العقل، أو بعبارة أخرى في التمييز بين العقلانية واللاعقلانية. فالاختلاف في المفهوم اللاعقلاني يعود أصلاً إلى الاختلاف على مفهوم العقل وخضوعه للنسبية التاريخية. فلا وجود لإجماع على مفهوم العقل في تاريخ الفلسفة، لأن ما كان لاعقلانياً في وقته يصبح عقلانياً في وقت آخر والعكس صحيح، كما الحقيقة إذاً، فمن كان يملك الحقيقة والمعرفة في زمن ما سيغدو في زمن آخر مجرّداً منهما تماماً لصالح من جُرّد منها قبلاً!!

محاولات الاستئثار بالقرار الجماعي

هذا الأمر يفسّر المحاولات المسعورة للوصول إلى المجموعات (المُقرّرة) من الجموع، تلك التي يمكن اللعب والتأثير عليها عاطفياً وجمعياً. كما يفسّر محاولات التأثير عليها بكافة السبل، ومحاولات استمالتها وكسب ثقتها، حتى لو انتهى الأمر نهايات غير قابلة للتصديق، وبدا أشبه باستراتيجيات غسيل أدمغة. هذه المحاولات للاستئثار بالقرار الجماعي تتبدّى على سبيل المثال في استطلاعات الرأي التي تسبق الانتخابات، وانتقاء شرائح معينة ومحدّدة في سبر الآراء لترسيخ ناخب دون الآخر، ودفع مرشّح دون غيره. الأمر الذي كان واضحاً في الانتخابات الرئاسية الأميركية وغيرها كذلك. في السياق ذاته تلعب إثارة الفضائح ضد أحد المرشّحين الدور نفسه في التأثير على الجموع المقرّرة، فتنخفض شعبيته بين يوم وليلة دون أن يكون هناك إثباتات حقيقية لصحّة هذه الفضائح. وسائل التواصل الإجتماعي لعبت وتلعب دوراً كبيراً في التأثير كذلك على الجموع، إن لم نقل الدور الأكبر! فعلى سبيل المثال استطاع داعش، حسب كثير من المراقبين، التأثير على سكان المناطق التي احتلها قبل أن يدخل المناطق تلك، وذلك ببث كمّ من الفيديوهات والأخبار التي تزرع الخوف في قلوب الناس، وتجعلهم مستسلمين تماماً لقدرهم الآتي، ولذلك الوحش الأسود الذي لا يمكن قهره، فيدخل داعش بسلام ودون مقاومة شعبية تذكر! وحدّث ولا حرج عن قدرة تلك الوسائل على خلق مشاكل وتغييب أخرى، على إثارة المستخدمين ضدّ حدث أو شخص أو ظاهرة، وعلى تغييبهم عن أشياء كثيرة أخرى!

التأثير على الجموع المقررة، لا ينحصر فقط في الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي بل في المجالات الفنية والثقافية أيضاً. فلكم تصدّرت نجمة أو نجم الإعلام الفني، وبالتالي ازدادت فرصه بالظهور والنجاح، بسبب استطلاع رأي أجرته مجلة فنية أو موقع فني، حيث نصطدم يومياً بشخصية العام، أوسم رجل، أجمل ممثلة، أنجح امرأة وهلمجراً.. وكم ارتفعت أسهم كتّاب بسبب تصدير كتبهم للعامة بالطرائق ذاتها، حتى لم تكن تلك الكتب تستحق فنياً تلك الصدارة!

التأثير على الرأي العام

لكن الرأي العام المبني على السبر عامة يشبه موقف الإنسان تجاه كل شيء، وليس تجاه سلعة محددة أو حكومة بعينها أو نص أو قانون أو غير ذلك من دواعي الاستفتاءات. وبالتالي سيغدو الأمر غير محصور بالعنصر المستفتى عنه بل يتعلق بكل ما للمجتمع من سمات تتمثل في أفراده المختلفين. كما أن نظرية القطيع، التي تجعل الناس تتمائل لأسباب تتعلّق بالخوف وغريزة البقاء والاحتماء بالمجموعة وغيرها، يساهم مساهمة أساسية في التأثير على الرأي العام المقرّر اليوم، وبالتالي تغدو كل الآراء صحيحة حتى لو تناقضت، ويبقى الحكم في النهاية للكم، للعدد، في لعبة الصراع الجديدة.

باعتبار أن التأويل اللامتناهي لا يبتغي الوصول إلى غاية بعينها بل هو أقرب إلى لعبة المتاهة، فلربما كان الرأي والسبر لامتناهياً أيضاً، والأمر برمته يكمن في لذة إبداء الرأي، في لعب دور أساسي في الحكم، في إثبات وجود مهم عبر إطلاق الرأي، أو وهب الصوت بطريقة ما، بالنسبة إلى شعوب الإنسانية التي مرت عليها أزمان طويلة، متفاوتة المدة والأثر، لم تترجم فيها أصواتها (آراؤها) إلا عبر ترددات مبعثرة تتبدد في الفضاء.

روزا ياسين حسن. روائية وكاتبة سورية مقيمة في ألمانيا

مواضيع ذات صلة:

المشي في حقل الألغام.. العمل النسائي المدني في سوريا

كتابات النساء: في تدوير زوايا العالم

“الذين مَسّهم السّحر” لروزا ياسين حسن رواية ترصد مرارة الحرب السورية

ربيع أمريكا

بورتريه: مهاجرون في ألمانيا – سناء مكركر شڤيبرت