in

“من مفكرتي” لهيرمان هيسّه -2-

ترجمة أسامة منزلجي

عندما استيقظتُ كان الليل مضى تقريباً. لم أنظر إلى الساعة –لم أكن يقظاً بالقدر الكافي لأفعل ذلك– لكنني أبقيتُ عينيّ مفتوحتين لفترة وجيزة من الوقت ورأيتُ نور الصباح الشاحب يسقط على عتبة النافذة، على الكرسي، وعلى ملابسي. وتحدّى كُمّ قميصي السائب المتدلّي والملتوي قليلاً ما رسمته لي مُخيّلتي –لا شيء في العالم أكثر فائدة وتحفيزاً لأرواحنا من ضوء الفجر– بقعة من البياض تتهادى في الظلام، منظومة من الظلال الرمادية والسوداء تتلاشى أمام خلفيّة من البؤس.

لكنني لم أستجبْ لتحدّي تحويل الشكل الأبيض الملتوي إلى دوامة من الفتيات الراقصات، وغمامات تدور، وذُرى تُكلّلها الثلوج، أو تماثيل مُقدَّسة. كنتُ لا أزال تحت تأثير سلسلة من الأحلام الطويلة، وكل ما فعله وعيي هو أنه سجّل كوني يقظاً وأنَّ الصباح بات وشيكاً، وأنَّ رأسي يؤلمني، وأنني آمل لو أعود إلى النوم من جديد. بدأت قطرات المطر تقرع بنعومة على السقف وعلى عتبة النافذة. وملأني حزن، ألم، وفراغ؛ وفي الحال أغمضتُ عينيّ وزحفتُ عائداً إلى منطقة النوم والأحلام.

لكنني لم أستعد تماماً تلك الأحلام. بقيتُ في حالة من شبه النوم الهشّ، الطفيف، لم أشعر فيها بالإرهاق ولا بالألم. والآن مررتُ بتجربة أخرى، بشيء أشبه بالحلم لكنه ليس حلماً، أشبه بالتفكير لكنه ليس تفكيراً، شيئ أشبه بالرؤيا، أشبه بفيضٍ لحظيّ من اللاوعي تتخلّله أشعة برّاقة من الوعي.

خلال حالة شبه النوم الخفيف في الصباح قابلت رجل دين. في مُعظم الوقت خُيّل إليّ أنني أنا هو رجل الدين، فكّرتُ أفكاره، وانتابتني مشاعره؛ ورأيته في معظم الوقت كأنه شخص آخر، منفصلٌ عني، لكنني نفذتُ فيه بفهمي وعرفته بصورة حميمة. وكأنني رأيته وأيضاً سمعت وقرأتُ عنه. كأنني كنتُ أحكي لنفسي عن رجل الدين هذا وكأنه هو الذي يحكي لي عن نفسه؛ أو كأنه كان يعيش شيئاً أمام عينيّ  خبرته كأنني أنا الذي عشته.

رجل الدين –سواء أكان أنا أم أي شخص آخر– عانى حزناً ثقيلاً. لكنني لا أستطيع أنْ أكتب عن هذا كأنه وقع لأي شخص غيري، لقد خبرته وشعرتُ به. شعرتُ بأنَّ أنفس ما لديّ انتُزِعَ مني، لقد مات أطفالي أو كانوا في تلك اللحظة يحتضرون أمام عينيّ. ولم يكونوا فقط أطفالي الحقيقيين، بلحمهم ودمهم، بعيونهم وجِباههم، بأيديهم وأصواتهم، كانوا أيضاً أطفالي الروحيين، والممتلكات التي رأيتها تحتضر وتتركني وحدي، كانوا أفكاري وقصائدي الخاصة جداً، كانوا فني، وفكري، وبهجة عينيّ وحياتي. ولا يمكن أنْ يُنتزَع مني أكثر من هذا. لا شيء أكثر إيلاماً، وفظاعة، من أنْ تعشى هاتان العينان العزيزتان ولا تعودان تعرفانني، وألا تتنفّس بعد الآن هاتان الشفتان العزيزتان.

لقد خبرتُ هذا – أو رجل الدين خبره. أغمضَ عينيه وابتسم، وبهذه الابتسامة الرقيقة تمثّلتْ كل المعاناة التي يمكن أنْ أعرفها بأي طريقة، والاعتراف بكل ضعف، وكل حب، وكل هشاشة.

لكنَّ ابتسامة الألم الواهنة تلك كانت جميلة وهادئة، وبقيتْ ثابتة وجميلة على قسمات وجهه. هكذا تبدو شجرة في الخريف بعد أنْ تسقط آخر ورقة ترفرف إلى الأرض، هكذا ستبدو الأرض القديمة عندما يختفي آخر ما تبقّى فيها من حياة تحت الثلج أو النار. كان ألماً، كان حزناً، أعمق حزن ولكن لم تكن هناك مقاومة، ولا إنكار. كانت موافقة، استقالة، رضوخاً، كانت معرفة وإذعاناً. لقد ضحّى رجل الدين ومدح التضحية. عانى وابتسم. لم يُقسِّ قلبه ومع ذلك نجا، لأنه كان خالداً. قبِلَ الفرح والحب ووهبهما، أعادهما ولكن ليس إلى شخص غريب، بل إلى القدَر الذي كان قَدَرَه. كما تستقرّ فكرة داخل الذاكرة وتغوص إيماءة لترتاح، كذلك فعل أطفال رجل الدين وخمد كل ما يمتلك من حب، تلاشى داخل الألم لم يضِع، بل تجمَّعَ في أعماقه الداخليّة الخاصة. لم يختفِ، لم يُقتَل، بل تحوّل، لم يُدمَّر.. عاد إلى الأعماق، إلى داخل العالم وداخل المتألِّم. كان الحياة وتحول إلى رمز، كما أنَّ كل شيءٍ هو رمز وفي الوقت نفسه يتلاشى في الألم فلعله يرتدي، بوصفه رمزاً جديداً، ثوباً مختلفاً.

 

“ولد أسامة منزلجي في اللاذقية عام 1948 ودرس الأدب الانكليزي في جامعة دمشق. مترجم قدّم الكثير بترجماته المميزة إلى المكتبة العربية، يعتبر من أبرز المترجمين عن الإنكليزية. عُرف بترجماته لأغلب روايات هنري ميللر ورواية كازانتراكس “الإغواء الأخير للمسيح” وغيرها، من أعمال جان جينة ونورمان ميللر وهرمان هسه وتينسي وليامز وجيمس جويس وتيري ايغلتون والكثير غيرهم.”

 

اقرأ أيضاً

“من مفكرتي” لهيرمان هيسّه -1-

ذلك العقاب… هذه اللعنة

امرأة في برلين، ثمانية أسابيع في مدينة محتلة

السوريون في تركيا، ضيوفٌ بالإكراه وزوارٌ تحت إمرة الوالي

البشر مستمرون بتحويل الأرض إلى جهنم

اللاجئون بين الاندماج وحلم العودة