in

ليس أكثرَ وحدةً قط 2

اللوحة للفنان عبد الرزاق شبلوط

سوار ملا*

تنشرُ أبواب في ثلاثة أجزاءٍ متتاليةٍ ترجمةَ نصٍّ نقديٍّ للفيلسوف والمفكر الألماني “سڤين هيلين كامب/ Sven Hillenkamp”، وهو من مواليد بون ١٩٧١. درسَ العلوم الإسلاميَّة والتاريخ الإقتصاديّ والإجتماعي والعلوم السياسيّة، وعمل خلال سنة ٢٠٠٧ في استوكهولم على سلسلة كتبٍ فلسفيَّة- سوسيولوجيّة بعنوان “إكراهات الحريَّة”.

في هذا النصِّ يسلّط “هيلين كامب” الضوءَ على ظاهرة “الوحدة” في المجتمعات الحديثة بصورةٍ عامّة، ويستند في تحليله على تَغيّرات حصلت في المجتمع الألماني، ويعاين تأثيرات وتحوّلات هذه الظاهرة التي كَثُر الحديث عنها في المجتمعاتِ العصرية. ويحاول “هيلن كامب” بذلك أن يبيّن للقرّاء المسببات التاريخيّة لهذا الإحساس المتفاقم، أي الإحساس بـ “تفشّي الوحدةِ”، وكذلك “تنامي الفردانيَّة” و”العزلة” لدى الإنسان المعاصر، وينتقدُ الآراء التي يجدها قاصرةً في تحديدِ ماهية هذه الظواهرِ، ويسمّي بعض المسببات الاقتصاديَّة والاجتماعية والسايكولوجيَّة التي تقفُ وراء ذلك، ويُمتِّن رؤاه بإجراء مقارناتٍ بين أزمنةٍ مختلفةٍ.

الجزء الثاني

العُزّاب

في عام 1950 كان ثمة أكثر من ثلاثة ملايين عازب في ألمانيا الغربية وحدها، أما اليوم فيبلغ عددهم اثني عشر مليوناً في كامل ألمانيا، وعما قريب سيصبحون خمسة عشر مليوناً. نصف الأُسَر التي تقطن المدن الكبيرة هي أسرٌ مؤلّفة من شخص واحد.. هذا يبدو رهيباً! إلا أنَّه ثمة عوائق وملاحظات:

أولاً، ليس كلّ الساكنين بمفردهم منقطعين عن العلاقات العاطفية.

فالكثير منهم لديهم علاقات، لكنَّهم لا يعيشون مع شركائهم في البيت نفسه، وهذا “الحبّ على مسافة”، أو “الحبّ عن بعد”، يكون في الغالب مؤقتاً ولا يستمر طويلاً. وحين تستقرّ العلاقة وتستمرّ سينتقل الشريكان للعيشِ سوياً. وهنا أيضاً يلعب اليُسر الإقتصادي دوراً جوهرياً في التقريبِ التدريجي بين الشريكين، وتصحيح مسار العلاقة.

ثانياً، الأجداد والآباء والأبناء تحت سقف واحد.

فقد أخذت العوائل تُنشئ بشكل متزايدٍ شققاً كثيرة، أي أُسراً مستقلّة في ذات البناءِ، وهذا بدوره مظهر من مظاهر اليسر الإقتصاديّ، حيث يعيش الأجداد والآباء والأبناء تحت سقف واحد، لكن تفصلهم أبواب الشقق. آخرون يعيشون في بيوت متجاورة أو في ذات الحيِّ. ويتزايد أيضاً هذا النوع من “العلاقات الودية عن بعد”، تجاوزاً لخطيئة تفكُّك العلاقة بين الأجيال المُخْتَلِفةِ في التسعينيات وإبعادها عن بعضها.

والعديدُ من الباحثين يعتمدون في دراساتهم على الأُسَر المستقلّة وحدها. لكن الجديرٌ بالذكر أيضاً أن نسبة الأبناء والأحفاد الذين يعيشون حالياً في ذات البيتِ، أو المكان، تزيدُ بثلثين عن ذات النسبة في السابق. فقط 5% منهم يعيشون في الوقت الراهن بعيدين مسافةً تزيد عن ساعتين بالسيارة. إذاً، الانطباع بأن غالبية العائلات مشتّتة ومتناثرة على خارطة البلاد خاطئٌ.

ثالثاً، ازدياد معدل الأعمار.

يشكّل المسنون، الذين يتجاوز عمرهم الخامسة والستين، نسبة 40% ممن يعيشون اليوم بمفردهم. إذاً، “مجتمع العُزّاب” يستندُ بصورة كبيرة على ازدياد معدّل الأعمار. وبالتالي بالنسبة لكبار السن، لاسيما الأرامل، لايصحّ أن نساوي بين عيشهم بمفردهم وبين كونهم منعزلين. ولا يمكننا أن نغفل الدراسات التي تُبرِز على النقيض من ذلك أنَّ عدد المسنّين الذين يشعرون بالوحدة يتضاءل باستمرار. فالإنسان يغدو مع مرورِ الوقت أكثر حيويةً ونشاطاً، نتيجة الحالة الصحيَّة الأفضل، وكذلك التحسُّن الإقتصادي والتعليمي. كما أن أولئك الذين يقيمون علاقات عاطفية وصداقاتٍ، ويرعونها في أواسط العمر، سيحافظون عليها حتَّى في الشيخوخة. لذلك فإننا نرى توسُّعاً في شبكات التواصل بين المسنّين، وتماسُك العوائل لم يضعف بدوره، بل تقوّى. ولا نغفل الدور الجوهري لتحسُّن وسائل التواصلِ البشريِّ في كلّ ذلك، حيث أن المجتمع “يتعلَّم التحدُّث”، فنجدُ أنفسنا مثلاً نتشاجر حول الماضي، نتكلّم عن عواطفنا فيما بيننا أو حتى على الملأ. “بطشُ الألفة والمودّة” هذا إنَّما هو فيضانُ الكلام الذي أغرقَ الصّمت، ذاك الذي كان متفشيّاً، لا سيّما الصمت القائم بين الأجيال “بفضل ثورة 1968”.

ولوصف هذا النموِّ الهائل في العلاقات الخاصة بين العديد من العوائل أو حتَّى الصداقات، بما فيها صداقات الرجالِ مع الرجال، تنقصنا المفرداتُ بحق، فأيّ مصطلح سوسيولوجيّ يمكنه أن يصفَ بدقّة “مجتمع التّواصل” هذا!..

ليس الإنترنت من يجعلُكَ وحيداً

جليٌ أن كثيراً من الناس يتحدّثون اليوم عن “وحدتِهم”، يجاهرون بها في برامج “التوك شو”، في إعلانات التعارف الشخصية، وغرف الدردشة، إلا أن ذلك لا يعني أنَّه ثمَّة “وحدة” أكثر في وقتنا الراهن، إنَّما يُظهِر تنامي قدرتنا على التحدُّث عن أنفسِنا والتواصل مع الآخرين. ويلاحظُ المرءُ كذلك بأنَّه ليس الإنترنت من يجعلُ الناس وحيدين، إنَّما الوحيدون هم الذين يستخدمون الإنترنت (ليس التلفاز من يجعل الناس يشعرون بالوحدةِ، بل الوحيدون يفرطون في مشاهدة التلفاز، كذلك ليست الروايات من تجعلنا وحيدين، بل الوحيدون أيضاً هم الذين يميلون إلى قراءة الروايات).

العُزَّاب الحقيقيّون لا يشكّلون أكثر من 20% من العائلات المكوَّنة من شخص واحد! وهؤلاء هم الوحيدون العصريّون بالطبع، فمن يعيش دون شريك سيحسّ بالوحدةِ دوماً. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ عُزَّاب هذه السنة، الذين يعيشون بمفردهم، ليسوا عزَّاب السنة القادمة. ليس ثمَّة استقرارٌ إنَّها مثل محطة تبديلٍ؛ يعيشُ المرءُ وحيداً دونما شريكٍ، من ثمّ وحيداً رغم وجود شريك، بعدئذٍ يعيش مع الشّريك، ومن ثمّ، ربما، يعودُ وحيداً دونما شريكٍ.

العُزّاب يكوِّنون الكتلة الحركيّة الطبيعيَّة لمجتمعٍ حرٍّ، يُمكن للبشر فيه أن ينفصلوا حسب إرادتهم. لكن العيشُ منفرداً ليس الطريقة الأمثل عندهم،على العكس، فالحياةُ المشتركة تحظى عند النَّاس بقيمةٍ رفيعةٍ كانت غائبةً لوقتٍ طويل. كما أنّ العُزّاب ليسوا بالضرورة منغمسين في الملذاتِ، أو مهووسين بأعمالهم وتجارتهم، إلا أنهم، في الغالب، غير قادرين على ولوجِ علاقة جديدةٍ بعد فشلِ علاقةٍ سابقة، أي أنّهم وحيدون في تلك الفترة الفاصلةِ، الفترة اللازمةُ لمعالجةِ الأمر وإعادة النَّظر فيه. حتَّى هذه الفترة صارت أقصر ممّا كانت عليه في السابق، ولكن حتى يومنا هذا لم تقلّ علاقاتُ الزواج غير السّعيدةِ.

سوار ملا، شاعر ومترجم سوري مقيم في ألمانيا

اقرأ أيضاً للكاتب:

ليس أكثرَ وحدةً قط – الجزء الأول

ترحيل اللاجئين السوريين إلى بلدهم لايزال يتصدر خلافات مفاوضات تشكيل إئتلاف حاكم

850 ألف دولار لإعادة البصر: الشركات الطبية مستمرة باستغلال المرضى