in

ليس أكثرَ وحدةً قط “الجزء الثالث”

اللوحة للفنان عبد الرزاق شبلوط

سوار ملا*

تنشرُ أبواب في ثلاثة أجزاءٍ متتاليةٍ، ترجمةَ نصٍّ نقديٍّ للفيلسوف والمفكر الألماني “سڤين هيلين كامب / Sven Hillenkamp”، وهو من مواليد بون 1971. درسَ العلوم الإسلاميَّة والتاريخ الإقتصاديّ والإجتماعي والعلوم السياسيّة، وعمل خلال سنة ٢٠٠٧ في استوكهولم على سلسلة كتبٍ فلسفيَّة- سوسيولوجيّة بعنوان “إكراهات الحريَّة”.

في هذا النصِّ يسلّط هيلين كامب الضوءَ على ظاهرة “الوحدة” في المجتمعات الحديثة بصورةٍ عامّة، ويستند في تحليله على تَغيّرات حصلت في المجتمع الألماني، ويعاين تأثيرات هذه الظاهرة التي كثُر الحديث عنها في المجتمعاتِ العصرية، ويحاول بذلك أن يبيّن للقرّاء المسببات التاريخيّة لهذا الإحساس المتفاقم، أي الإحساس بـ “تفشّي الوحدة ” و”تنامي الفردانيَّة” و”العزلة” لدى الإنسان المعاصر، وينتقدُ الآراء التي يجدها قاصرةً في تحديدِ ماهية هذه الظواهرِ، ويسمّي بعض المسببات الاقتصاديَّة والاجتماعية والسايكولوجيَّة التي تقفُ وراء ذلك، ويُمتِّن رؤاه بإجراء مقارناتٍ بين أزمنةٍ مختلفةٍ.

الجزء الثالث:

“هل نسبةُ الوحدة بين الطبقات الإجتماعيَّة الدنيا منخفضة؟ كلا!”

ليس ثمَّة أقسى من الإحساس بالوحدةِ، حينما يتشاركه شخصان معاً، أن يتقاسما ذات الطاولة والسّرير، رغم غيابِ الحبّ واستحالةِ التواصل. الانفصالُ هنا يُؤمّن مخرجاً من المأزقِ، وبذلك، فإنّ ازدياد معدّل الطلاقِ بين الأزواج، ليس دليلاً على ازدياد الوحدةِ.

وعلى سبيل المزاح، فالعكس تماماً هو الصحيح. بل حتى الانفصال في هذه الحالة، هو أيضاً نتيجةُ التغلُّب على الوحدةِ. فالإنسانُ الذي يعيش عزلةً إجتماعية، وليس لديه زملاء عمل، وبالكاد يملك أصدقاء، لا يجرؤ في الغالب، على الانفصالِ. بينما الذي يملكُ أصدقاءً، وعملاً، وحياةً خارج إطار هذه العلاقة، فإنَّه يثق بنفسه، ويمتلك جرأة كافيةً. بغضّ النظر عن الدعمِ العائليّ، كان الراغبون في الإنفصال قديماً، لا سيّما النّسوة، لا يلقين دعماً، بذلك كان يغدو الإحساس بالوحدةِ لدى الزوجين، إحساساً متفشيَّاً بين كلّ أفراد العائلةِ.

أسطورة: الفردَ المُعاصر وحيد

تستندُ إلى إسباغِ المثاليّة على شعار”الاتحادِ من أجل الحياة”، كما أنها تقومُ على فكرة، إظهار المجتمعات التقليديّة بصورة مثالية ونموذجية، رغم أنّ المرء في الأزمنة الفائتة، لطالما كان موحشاً وشاعراً بالعزلةِ. فمثلاً كان يدخل الكنائس خشيةً وخوفاً، ويترعرعُ في أُسَر ومدارس تطغى عليها القسوةُ، ويعمّ فيها الصمتُ، وغالباً العنفُ. ويعيش تحت سطوة المؤسسات السلطويّةِ، التي لم يكن السلطويون فيها أشخاصاً عاديين يمكن التواصل معهم، في مجتمعات لم يتواجد فيها عونٌ حقيقيٌّ قط. كم سيكونُ وحيداً المختلفُ الذي يشذُّ في هكذا جوٍّ، كم سيكونُ الجيرانُ أعداءً!. يتعيّن على من يريد أن يحمَّل الحاضرَ وحده مسؤولية “الوحدة”، أن يشطب كلّ ذلك من صفحة الماضي.

دور الرومانسيَّة ومعاداة الحداثة

غالبية التوقّعات التي تقدَّم نسباً خفيضة للوحدةِ، بين الطبقات الإجتماعيّة التي لم تتلوّث بالحداثة كثيراً، بالمالِ والجموح، بالتنقُّل الكثيف، وندرة الأطفال، نتيجة التعلّق بالعملِ والمهنةِ، نابعةٌ من بواعث رومانسيَّة معادية للحداثة. إنَّهم ينزّهون “الطبقة الدنيا”، كما جرت العادةُ. لكنّ حتَّى هذه الطبقة المحبوبة نفسها، ليست غير شَيءٍ مُتخيَّل.

فكلَّما كان الوضع الاجتماعي أفضل، وبالتالي الوضع التعليميّ، والثقة بِالنَّفْس، وسبُل التواصلِ مع الآخرين والعالم، غابَ الإحساسُ بالوحدةِ. وهذا يبدو واضحاً في حالة البطالة، حيث أن خطر العزلة الذاتيَّة، يبلغ حدّه الأعظمي بين الطبقات الدنيا من المجتمع.

كما يمكننا النَّظر إلى التَفريد كطريقٍ يخرجُ من الوَحدة إلى المجتمع، كبحثٍ عن مجتمع أفضل، عن صداقات حقيقيّة، وعلاقات عاطفية ناجحة. إلا أن هذا الطريقُ يمرُّ بالمزيدِ من الوحدةِ، حتَّى يدركَ غايته.

سيرةُ تطوُّر كلِّ فردٍ تبدأ، قبل كلّ شَيءٍ، بالبحثِ والتجوُّل في المدن الكبيرة، في بلاد غريبةٍ، بعيداً عن الأبوين، لأنَّه آنئذٍ يمكن للمرءِ التحكُّم بحياتِه بصورةٍ أفضل. وعليه أن يقرِّرَ، إمّا أن يعيش حياةً عائلية، وإمَّا حياةً منعزلة. عليه أن يختار بين جلسة أكل مع الأصدقاء، وبين العمل حتى منتصف الليل. وبذلك يتحمَّل كلّ أحدٍ مخاطرَ وحدته بنفسه. وذلك يعتمد، بطبيعة الحال، على تجارب المرءِ الحياتيَّة، وبصورةٍ خاصّة، تلك التي عاشها في طفولته، ويعتمدُ بالمثل على قدرتِه على إضعافِ التجارب السَّيِّئَة منها، والتغلُّب عليها، عبرَ تلقّي العلاج النفسيّ مثلاً. بذلك، يكتسب المرءُ “قابلية التعلُّق والإرتباط بالآخرين”، والتي من شأنها أن تكون ثقلاً موازياً لصدماتِ الحياة.

الإنحدار الإجتماعيّ، البطالة، الانفصال والموت. كذلك المخاطر التي قد تخفيها “الفُرَص”، مثل تغيير مكان السكن، والحياة المهنيّة.. مع مضيِّ الوقت تُثقلُ الخياراتُ كاهلنا، وفي كلّ مرَّةٍ علينا أن نختارَ.

ليس عددُ الوحيدين ما يزداد، بل تزداد مسؤوليتهم عن وحدتِهم. وليس للأمرعلاقةٌ بحداثةٍ موحشةٍ، إنَّما بتحديثٍ للوحشةِ. لكن في المجمل لا يختلف الأمركثيراً.

منذ أكثر من ثلاثة عقود، أعلنت مؤسسة استطلاعات الرأيِّ عن “وحدةٍ محسوسةٍ” عند الناس. النتائج كانت كالآتي:  

سنة 1971 قَالَ 5% من الأشخاص الذين تمّ استجوابهم، بأنَّهم يشعرون أغلب الأحيان بالوحدةِ. في آخر استطلاعات عام 2001، كانت النسبة ذاتها. كانت النسبة تصعد بين هاتين السنتين أحياناً إلى 6%، أو7%، ثم سرعان ما كانت تنخفض.

هذه النسب جديرةٌ بالملاحظة أكثر من النسب الحاليّة، المقتصرة على ثلاث مجموعات من البشر، “المسنّون، كثيرو التنقّل، والعاطلون عن العمل”، حيث تكون نسبة الإحساس بالوحدةِ لديهم هائلة ومتنامية. حتَّى أنَّ سقوط النظام الإشتراكي، الذي كان قائماً وموجوداً بحق، وحلولَ إقتصاد السوق الحرَّة، لم يؤد لنسب مرتفعة كالتي نجدها الآن.

في شرق ألمانيا، سنة 1995، حين سُئِلَ الناس لأوَّل مرَّةٍ عن إحساسهم بالوحدة، كانت نسبةُ الذين يشعرون غالباً بالوحدة 6%، سنة 2001 أصبحت نسبتهم 7%.

إذاً، من 5% إلى 7% من الألمان، يمكن نعتَهم على نحو قويم وعادلٍ ب”الوحيدين”. ولكن أكثر من ثلثي الألمان يقولون على العكس من ذلك، بأنهم نادراً مايحسّون بالوحدة، أو لا يحسّون بها البتّة. الخُمسُ حتَّى الرّبع منهم، يقولون بأنّهم أحياناً يشعرون بالوحدة، ويمكن اعتبار ذلك وفقَ شروط الحياة الحديثة أمراً طبيعيّاً. وهو أمرٌ ضروريٌ، في حال أراد المرء أن يعثر على ذاته، على أفكاره وفنّه وإلهه. ولا ننسى إنَّنا نحتاجُ الوحدةَ أيضاً، تماماً مثل حاجتنا إلى المجتمع.

*سوار ملا، شاعر ومترجم سوري، مقيم في ألمانيا

اقرأ أيضاً للكاتب:

ليس أكثرَ وحدةً قط – الجزء الأول

ليس أكثرَ وحدةً قط 2

 

 

تأجيل محاكمة الفتاة الفلسطينية عهد التميمي إلى الشهر المقبل

توزيع هدايا الفالنتاين في قمّة ريال مدريد و باريس سان جيرمان ..وأوناي إيمري لزيدان “ما بتعلمش”‏