in

لماذا يراوغ مصعب بيروتية ظلّهُ؟

كنت أراوغ ظلي - مصعب بيروتية

حيدر محمد هوري

تمثل العناوينُ العتبةَ الأولى والأساسية لأي كتاب، ومن خلالها نستطيع استقراء واكتشاف المتن، ومعرفة ماهية المضمون ومستواه الإبداعي، كما أن العنوان يمنح القارئ القدرة على فتح وسبر أغوار النص، وهنا أمامنا عنوان اشكالي جدًا (كنت أراوغ ظلي) للشاعر السوري مصعب بيروتية فهل يشكل هذا العنون متنًا قائمًا بذاته، أم أنه مفتاحنا لاكتشاف مغاليق المتن؟!

يتكئ مصعب في مجموعته على عدد من المفردات التي من خلالها يقتحم عوالم الكلمة والخيال وهذه المفردات هي: الظل، الضوء، الحلم، الخيال، والسراب. وخاصة الظل والضوء، فهما حاضران في أغلب القصائد وكأنما يحاول الشاعر رصد ما يجول في أعماقه، لذا يعيش حالة من الصراع بين الظلمة والنور في معظم نصوصه ليمسك بخيط الأمل تارة وتارة ينفلت منه، لتبدأ رحلة البحث عن الرؤى الهاربة.

يبدأ الشاعر بقصيدة تحمل اسم (شبابيكٌ مطلّةٌ عليَّ) وفيها يمنحنا دور المصور لنلتقط بعدسته مشاهدَ من الرؤى والأحلام والذكريات التي تدور في خيالاته. يستعين بفعل الماضي وبالرسم، وكأنّه يتوسل إلى الأمس ليغافل الحاضر الذي أثقل القلب بالجراح والأحزان والعيون بالخوف والترقب..

“كانَ يرسمُ بالبوحِ غيماتهِ كي يشكّلَ حقلاً/ يلوّنهُ بالخيالِ، ويمضي إلى الدّربِ/ يحرثُ أرضَ الحروفِ ويسقي زهورَ المشاعرْ/ كانَ يقبسُ من طورِ أحزانهِ نارهُ/ وإذا أقبلَ الليلُ كان يضمّدُ جرحَ الدّفاترْ”(ص9).

للشاعر مرصده الخاص وهو الكلمة، ومن خلالها يتمكن من خلق الجهات كلما تداخلت أمامه الخرائط ليتمكن من الوصول إلى الجهة المأمولة، فحالة التبعثر والشتات التي يعيشها مصعب ونعيشها نحن ما هي إلا سراب زائل..

“كأنّ الخرائطَ محضُ سرابٍ/ وآثارُ خطوتهِ محضُ وهمٍ/ كأن الجهاتِ تداخلَ في ظلّها كلّها ظلّهُ

والعبورُ محالُ/ وكأنَ المدى واقفٌ… والزّمانُ خيالُ”(ص11).

يعتمد مصعب على فكرة الثنائيات في خلق صوره الشعرية، فنراه يربط بين الشمس التي تشكل حالة التوأمة مع الظل ويأخذنا نحو الطفولة، ويزرع خيالاته أحلامًا ورؤىً كلما راوغَ ظلّه..

“الشمسُ تدنو نحو زورقهِ الصغير/ وكلّما مالتْ يراوغُ ظلّهُ ويحومُ حول خيالهِ/ فوضاهُ تُزرعُ في ترابِ البوحِ قمحاً واقفًا/ والحرفُ ينبتُ في مروجِ ظلالهِ”(ص12).

في قصيدة (انعكاسات الظّل) يبين الشاعر أن التفكير بالظلّ عملية مؤلفة من جزأين، الأول هو فكرة الانعكاس لأن الظل بالأساس عبارة عن ظاهرة انعكاس لشيءٍ ما معرض لمصدر ضوئي وبالتالي تترتب على هذه الظاهرة أمور وهواجس كثيرة ترتبط بكوامن الكاتب ودواخله، أما الثاني فهو المسألة البصرية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعين والرؤية، والتي تساعد الشاعر والمتلقي في آنٍ واحد على رسم ورؤية تلك المنعكسات النفسية والروحية كالذكريات والحنين والبوح وغيرها..

“ويشربُ بن الذّكرياتِ/ فبنّهُ سيعلنُ في بدءِ الصباحِ افتتاحهُ/ ينوحُ على شبّاكِ ليلٍ مسافرٍ/ فيعكسُ ظلٌّ للنجومِ نواحهُ”(ص20).

الظل هو البرزخ الفاصل والجامع في نفس الوقت بين الضوء والظلمة، وهو العدالة البصرية التي تجمعُ بين المستور والمكشوف، وبين المبهر والمعتم لذا يعتبر الشاعر النور أصل الغموض ومستودع الأسرار..

“قد ينبعُ النورُ سرّاً/ والضوءُ… في الجهرِ يخبو”(ص23).

وأيضًا:

“وإلى متى؟!/ سأظلُّ وحدكَ.. ملئيَ… الكلماتُ/ تنطقُ منك في خلواتي/ حتّى كأن الظّلّ يحبسُ ضوءهُ/ في عتمةٍ للنورِ.. أو ظلماتِ”(ص37).

المفردات التي ترتبط بالظل ومسألة الانعكاس كثيرة، كالشمس والنور والعين والخيال، لكن أحيانًا يكسر مصعب تلك القاعدة في رسم الصورة الشعرية أو في خلق المشاهد البصرية، فيستخدم مفردة (الريح) استخداما يحمل دلالاتها الخاصة ومشكّلة مع الظل ما يختصر مشهدية البعد والرحيل لنشعر بأن الريح من متلازمات الظل، فنراه يقول:

“لونتُ ظلّي بالرَّحيلِ/ فلملمتني الرّيحُ واستلقتْ على شرفاتي”(ص38).

وأيضًا يقول:

“وكانَ ظلّيْ يمشي على مهلٍ/ والرّيحُ تعوي بهِ.. لكي يقفا”(ص62).

يقول ابن عربي: “ظلّكَ حقيقتكَ، وفي وقت الاستواء يغيبُ عنكَ ظلّكَ فيك”، كأنما أصاب شاعرنا هذا القول ليعتبر الظلّ شيئًا موازيا للحقيقة على خلاف النور الذي يشكّل ويعبّر عن الغموض والسر..

“كالضوءِ يُعكسُ… كالمنائرِ/ كالصدى يرتدُّ من ظلّي إلى مرآتي”(ص39).

ويقول:
“يا واقفاً/ بينَ الحقيقةِ والمجازِ وبيننا.. دعنا نمرُّ خلالكْ/ فإذا يمينكَ../ لوّحت للياسمينِ.. امددْ/ لظلّ الياسمينِ شمالكْ”(ص50-51).

هناك من يرى إلى الظلّ بأنه يرتبط بشكل وثيق مع فكرة الموت، لأن الإنسان في زعمهم عندما يموت يهرب ظلّه من بدنه فلا يدفن معه لأنه غير ساكن ويميل إلى التحركِ والتغيير، أما مصعب فيرى أن الظلّ يرتبط بالحلم وبالحالات الغيبية التي تمثل حالة صعود النفس من عالم المعقول إلى غير المعقول، لأن التماثل بين الحالة البصرية والظلّ أقرب ما يكون إلى الحلم والأسطورة..

“كالحلمِ تسكنني ذكرى من ابتعدوا/ أمضي وأبحثُ عن غيبي فلا أجدُ/ وأعبرُ الظلّ.. مسنوداً إلى حلمي/ كالرّوحِ يمشي على عكّازها الجسدُ”(ص71).

“ريحٌ.. وظلٌّ.. وشمسٌ.. والظّلامُ رؤىً/ كلُّ العناصرِ في الأحلامِ تتّحدُ”.(ص75)

كما يستخدم الشاعر مفردة الظلّ أحيانًا بمعناه الحقيقي كأي مفردة تساعده في صياغة جمله وتراكيبه، وهذا أمر طبيعي إذ إنه من غير المعقول أن يكون لاستخدام المفردة دلالات بلاغية أو توظيفٌ أسطوريٌ أو معرفيٌ بشكل دائم..

“بنى كعبةً للبوحِ.. طافتْ بظلّها حماماتهُ/ والحرفُ فيها يُسبّحُ”(ص45).

“في ظلّ غيمةِ عينيها ترى قمرا/ يغمّضُ الضوءَ حتّى يذرفَ المطرا”(ص105).

الشمس دليلُ الظلّ لذا تجمع الأمُّ وكأنها الشمس هذا الظل وتزرع بالنور ومضة الأمل والفرح كلما هز البؤس أغصان الحياة.. حتّى إذا أصابها الحزن تجعل من دموعها شموسًا تنير بها الظلام أمام خطانا..

“أمّي إذا هبّتْ رياحُ البؤسِ فيّ تهزّها/ كانت تلملمُ في انسلالِ الظلِّ ضوئيْ/ تقطفُ النورَ المخبّأ فوقَ أغصانِ الحياةِ/ وتحتفي بي ومضةً من كستناءِ/ أمّي إذا حزنتْ شموسُ عيونها/ تدعو.. فتُفتحُ ــــ في ظلامِ الرُّوحِ ــــ أجفانُ السماءِ”(ص66).

الظلّ في قاموس مصعب هو الأمان والعائلة التي يحتمي أفرادها ببعضها البعض لذا يرسمون خرائط الشوق والحنين كلما غاب أحدهم. يستعينون بالشمس على الشدائد والأزمات والشجون فهي مركز الظل وأصله..

“قد كنّ ظلّي/ يحتمينَ بغصني المكسورِ/ إذ هبّتْ رياحُ الخوفِ في أحلامهنَّ/ يلتحفن الشّمسَ- شمسي – والكتابَ إذا ارتجفنَ/ أبي وهنَّ وقلبُ أمي يرسمونَ لي الخرائطَ/ حينَ أمضي .. كنتُ سورهمُ الوحيدْ/ فإذا أرادوا.. كنتُ أوّلَ من يريدْ”(ص68).

أخيرًا (كنتُ أراوغُ ظلّي) الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي في الدورة الثامنة عشرة كعنوان هو متنٌ قائمٌ بذاته وفي نفس الوقت استخدمه الشاعر مصعب بيروتية كمفتاح لنعرف أن الظلّ في نصوصه يمثل الذاكرة والرؤى والأسرار. موظفًا في ذلك الموروث والأسطورة والمعرفة لخلق التجليات والإيحاءات الروحية والنفسية راصدًا بذلك عددا من الهواجس الإنسانية بخبرة المدرك.

خمس وخمسون

الرحيل الأخير