in

عن حياة… الموتى لا ينتحرون

نداء عوينة.

“كلّما التقيت (حياة) تأكّد لدي شعور أنّ ما هي عليه الآن أفضل ممّا كانت عليه في الماضي. هي مثل شجرة كبيرة متعبة، تضرّرت بعض أغصانها قليلاً واكتست بعض أوراقها باللّون الأصفر، لكنّ البقيّة كانت نضرة ومفعمة بالحياة.

مع تكرار لقاءاتنا لم يتبدّد هذا الشّعور، بل تأكّد. كانت تحدّثني عن حياتها في برلين، لا شيء سواها، لا قديم تذكره أمامي سوى أيّامها الأولى في الملجأ ورحلة حياتها القصيرة في مدينة لم تعطها ولم تأخذ منها إلّا القليل”. “لم أخطّط لخطوة في حياتي. أصبحتُ مقاتلاً بالصّدفة، وبالصّدفة نجوتُ من الموت مرّات عدّة. وصدفة انتهى بي الأمر هنا في ألمانيا. حياتي صدفة كبيرة”.

لا يتعدى القارئ الأسطر الأولى من رواية “الموتى لا ينتحرون” للكاتب الفلسطيني سامح خضر حتى يأخذه الشغف فلا يستطيع التوقف عن القراءة، من المشهد الأول حيث اقتلاع (حياة) من حضن أسرتها إلى المشهد الأخير حيث يقتلع قلب القارئ الذي بدأ للتو بالارتياح. في الرواية ثلاث قصص لثلاثة لاجئين يعيشون في برلين؛ (حياة) الفلسطينية، (شروق) السورية و(إياد) الفلسطيني الناجي من مذبحة تل الزعتر، تتقاطع دروبهم في المنفى، المكان الآمن الذي هربوا إليه بعد أن استحالت الحياة في منابتهم. يعيش كل منهم على أنقاض خذلانه الشخصي، فحياة اغتصبها جدها الذي كانت تعيش تحت رعايته، وشروق أخذ البحر ابنها دون فرصة للوداع، وإياد، بدأ مقاتلاً مع الفدائيين وهو طفل، وعاد إلى تل الزعتر بعد المجزرة ليجد أمه وأخته جثتين منتفختين. “الموتى لا ينتحرون” مبنية على أسلوب المونولوجات المتعددة، لغتها سلسة ويومية، أنيقة دون أي تكلف تسمع فيها أصواتًا متعددة وتتفاعل معها بألفة شديدة، فقد أجاد سامح خضر تقمص الشخصيات والحديث بلسانها، وأجاد أيضًا لغة المرأة، فتحدث بطلاقة على لسان حياة وشروق رغم تعقيد العبء الشعوري الذي تحملانه، فالتركيبة النفسية الناتجة عن فقد الأمان وقبول الذات الواضح عند حياة وفقد الابن الذي تعرضت له شروق، يجعل المهمة تقريبًا مستحيلة، علاقة المرأة بنفسها وبجسمها وبما حولها، إعجابها، افتتانها، إرباكها، قوتها الهائلة، أمام قصة حبها مع الفدائي السابق، وهذا كله لم يصفه سامح خضر، بل أعلى صوته فسمعناه جيدًا.

تكاد الرواية تُصَدّق. وصف المكان حاضرٌ بصريًا. الشخصيات الثلاث راسخة ولها أبعادٌ واضحة، دون مبالغة ودون دراما مفرطة، حتى اللحظات التي تصرّف بها إياد كبطل خارق (سوبر هيرو) كانت تُصَدّق، وهذا ربما يأتي من تصورنا عن الفدائي الناجي من المجزرة أو عن العاشق النبيل الذي يذهب إلى المستحيل من أجل حبيبته، إلا أن المفارقات في الرواية تكاد تكون معدومة. السؤال الدرامي واضح والحبكة رغم تعدّد خيوطها مركبة بشكل سلس ومتضافر، أسهل قليلاً مما يجب في بعض الأحيان.

يقول الكاتب سامح خضر إن الرواية نتيجة عام كامل من الكتابة والبحث: “شاهدت فيلمًا عن تل الزعتر، وقرأت شهادات الناجين وتحدثت مع أشخاص عاصروا المخيم وأشخاص عاشوا فيه، جمعت معلومات عن المكان والأحياء المحيطة به، تحدثت مع صديقات لي، ومع أخصائي نفسي، وطبيبة نسائية وقرأت الكثير من الكتب عن الجوانب النفسية والبيولوجية الناتجة عن الأحداث الصادمة”.

صدرت رواية “الموتى لا ينتحرون” عام 2016 عن الدار الأهلية للطباعة والنشر في طبعتين، واحدة في الأردن والثانية في فلسطين، ولا تتوفر منها نسخ الكترونية حتى الآن، لكن نسخة منها موجودة في مكتبة بلدية أمستردام، وقال الكاتب لأبواب إنه سيبحث مع معهد غوته إمكانية إرسال بعض النسخ لمكتبة بلدية برلين كتبرع منه. “الموتى لا ينتحرون” هي الرواية الثانية لسامح خضر، سبقتها “يعدو بساق واحدة” عام 2015.

يعمل سامح خضر مديرًا لمتحف محمود درويش في رام الله، ويحمل شهادة البيكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة الأزهر في غزة والماجستير في الصراع العربي الإسرائيلي من جامعة القدس.

حقيقة العلاقة بين داعش وعارضة التعري البريطانية الموقوفة

كيف تحل الأحجية الألمانية؟