in

عن الذي حملناه معنا

عبد الرحمن القلق

لقد كان الفرق -بين هنا وهناك- مجازيًّا، ومن الصّعب عليّ أن أدرك جرحنا المشاع ما بين نصاله. كان عليّ أن أستيقظ مرّتين وأفركَ عينيّ ألفًا كي أتأكدّ أن الصوت القادم من شّباك المخيّم الألماني ليس ذاته صوت أطفال جيراننا النازحين من جوبر. أتذكّر محادثتي أمس مع صديقتي، وأتساءل الآن إن كانت مصادفةً أن ليس في هذه البلادِ شاطئٌ بدفء المتوسّط يذكّرني بما كان فأكرهه!

من كان يصدّق أن الفتاة التي كبرتْ تدسّ أصابعها برمل السّاحل السّوري وتحيي حفل زفافها على شاطئه لترقص حافيةً مع مدّه وجزره ستكرهه يومًا ما؟ من كانَ يصدّق أنها ستكره صوته ودفئه وكلّ شيء يذكّرها بالماء المالحة التي ملأت جسدَ صديقتها حتى الموت؟ لم تكن الفاجعة بالدم الذي سال من خمشة الحربِ على رقابنا، لكنها كانت في قدرتها على تحويل أجمل ما لدينا إلى وجعٍ نشتاقهُ حينما كان جميلًا. ولو جمعنا مِن شقوقِ الأرض دمنا السّائب وسكبناهُ على طول الدّرب الذي سلكناه، لامتلكنا خطًّا دوليًّا أحمرَ، ومشينا كُلّنا من هذهِ الحرب، لكن الحربَ كانت فينا، حملناها معنا ومضينا، ظننا أننا سنمتلكُ فرصةً للنجاة منكسرينَ أو حتى للموتِ راضين، لكننا انهزمنا جميعًا! وأوّلنا منتصرٌ شربَ نخبَ هذا الرحيل، وثانينا منتصرٌ جاءت إليهِ -مع رائحة الفجر- لعنةُ البقاء فانتحر.

انهزمنا، ووحدها الحربُ مَن ربحت. الأول حملَ شظايا مدينته في أمتعتهِ، أضاع جوازَ سفره عند أوّل نقطةٍ حدوديّة، وأضاع لعبة ابنته في البحر ثمّ -بينما يصعدُ الصّخر إثر وصولهِ إلى إحدى الجزر اليونانية- انكسرت ساعة يده التي ورثها عن أبيه، فأضاعَ الصّور، وكسّر آخر ذكرياته، ولمّا وصل ليبدأ لم يجد إلا الشظايا. شهق ذات صباحٍ وكاد يختنق ففتحَ يديه ليشمّ الحبقَ والملّيسة فلم يجد إلا الشّظايا.

قبل أن تحمل أشياءك انفض عنها رماد بيتك كي لا تشعر بدفءٍ في خيمة لو وضعوا لك فيها شمسًا تحترق، قبل أن تركب البحر انسَ فيروز وعشقها، وتذكّر أن تبقي عينيك مغمضتين كي لا تحقد على البحر والضوء و الله.

قبل أن تغلق جفن عينك، أسدل جفن قلبك الذي لا يهفو! ثمّ بدّد ليلك بأغنية لم تسمعها مرةً في دمشق كي تأمن مَكر الذاكرة.

قبل أن تمضي من بلادك انزع عنكَ الشّوق والفكر والورد وعطره، ومزّق صورك، ثمّ إن استطعت، حاول أن تسحب من تراب الأرض ساقيكَ ومن ورق الشّجر يديك ومن سماء المدينة عينيك، اسحب نفسك قبل جسدك كي لا تصلَ عاجزًا لا يمشي إلا لشوقه القديم، وتموتَ مقعدًا بكاملك في هذه البلاد.

أنت نائم الآن

من روائع الأدب الألماني