in ,

خولة: مؤنثٌ عربيّ بمعنى الظّبية التي لا تَقوى على المشي

عبد الله حسن*

حينما عَرضت عليَّ السيدة سعاد الكتابة في «أبواب» -والأدق أنها (شهادة) بدل (كتابة)، لأننا دائماً مطالَبون أن نشهد على أنفسنا وعلى العالم من حولنا- أخبرتُها آنذاك أنني لا أعرف أحداً في غازي عينتاب؛ (أعتقد أنني سأعيد التذكير بهذه القصة في مطلع كل مقال). المهم، قالت: «على الأقل تعرفُ شخصاً واحداً هو أنت أكتب عن نفسك»؛ آه .. نفسي أعرف إيه اللي جابني هنا بالضبط.. آه والنبي.

لا أدري إن كان ذلك من قبيل الصدفة، لكن العادةَ جرَت أن يُكثر مواليد برج السرطان الحديث عن أمهاتهم بحرارة الإيمان بالأمهات؛ ملاحظة: الجملة السابقة تستطيع فيها الوقوف عند كلمتين، ولدى كل واحدة منهن تستطيع أن تستشعر معنىً مختلفاً، كأن تقف خلف كلمة (أمهاتهم)، أو خلف كلمة (بحرارة) .. لستُ أدري كيف سأشرح لك ذلك، لكنني أشعر على أية حال كما لو كنتُ مبدعاً، وهذا لا يهمك بكل تأكيد، أقصد أننا جميعاً نفعل الكثير من الأشياء لـ نشعر فقط؛ حسناً ما يهمّك الآن هو إكرام ضيافتك لديّ هنا في هذا المقال الذي سأتحدث فيه عن أمي، خولة (لا تُخبر أحداً! إنني غيور جداً).

مؤنث عربي بمعنى الظبية حديثة الولادة، والتي لا تقوى على المشي؛ يراودها بين الحين والآخر أن جدّي يلاحقها ضرباً بالعصا، يؤنّبها على عدم ارتدائها الثوب المزركش عوضاً عن الرداء المدرسيّ، ويمنعها من الذهاب إلى المدرسة بعد ذلك، ليتلقّفها والدي ويهددها بالطلاق في العام الأول لزواجها منه إن لم تتعلم كتابة اسمها، فكان له ما أراد كالعادة (لا أدري ربما كان بالفعل يود طلاقها)، إلا أنها نسيته الآن.

ترى ما جدوى كل ذاك التهديد الذي لاقته.. لا أدري!.. لطالما دفع الناس أثماناً باهظة لكتابة أسمائهم، مثلما أفعل أنا الآن.. أدفع إليكم باسم عربي مؤنت لصناعة عربي آخَر مذكّر هو أنا، وهذه عادة الكتّاب الفاشلين إذ يستخدمون أمّهاتهم حتى خلال الحديث عن قضايا ميتافيزيقيّة؛ أحدهم كاد يقنعني ذات مرة أن والدته في الحقيقة أفلتت من بين سطور دوستويفسكي في «الإخوة كارامازوڤ»، مثلما أفلتت شخصية «عيسى ميندوزا» من بين يدي سعد السنعوسي حين بدأ يتحدث عن انتماءات «ساق البامبو» ذي القدرة على النمو في معظم أنواع التربة دون الحاجة للجذر، في حين كان قد قدّمه السنعوسي في البداية كشخص غير متعلم. يا للهول، الشخصيات في الرواية العربية أمّية تحفظ كولن ويلسون بالفطرة.

أياً يكن، لا يدري أحدٌ بالضبط في أي زمان وُلدت والدتي.. لجدّي زوجتان إحداهما ولدتها بالتأكيد لكنها لم تُسجّل كأم لها في دفتر العائلة، بل سُجّلت كابنةٍ لزوجة أبيها إلى جانب أصغر أخوالي الذكور.. أكبرُهم لم يؤدِّ الخدمة العسكرية لأنه «وحيد» حسب سجلات دفتر العائلة، والابن الوحيد الحقيقي لزوجة جدّي أدّى الخدمة لأن له إخوةً ذكوراً حسب السجلات ذاتها .. قبلَ أن تخرج المدينة عن سيطرة قوات النظام السوري تمكّنت والدتي من الحصول على نسبة من ميراث والدتها الورقيّة، ونسبة أخرى من ترِكة والدتها الحقيقية إبان سيطرة المعارضة على المنطقة.. البراغماتية رثّة كالبروليتاريا تتسلّلان إلى عقول الأمهات النحيلات اللواتي لا يُجِدْنَ حفظ الأسماء ولا تدوينها.

في ذلك الوقت كنتُ بعيداً، لم أرَها طيلة ٤ أعوام، كنت أقرأ، الكثير الكثير، وفي كل مرةٍ كان يردّني إلى جهلي عقلي.. مشغولاً بمراقبة ذاتي في الوجود وفي العدم، ومنهمكاً في عملية إنتاج فيلم وثائقي.. فشلت في كلتيهما، القراءة والحديث عن مآسي الآخرين؛ آمنت بالمُطلق أنني إنما ألقيَ بي إلى هنا كنوع من أنواع الندم الملقى على الأعمدة الفقرية لدى الفتيات الساذجات.. اللواتي يؤمنَّ بالحب عبر النظرة الأولى. والأخيرة إلى العينين ربما.

سأحدثكم عن حبيبتي في وقت لاحق؛ لا أحبذ عدم إفصاح الكتّاب عن أسماء أو أوصاف أحبّتهم، إذ لست أنعت نفسي بالكاتب أصلاً، لا بل أكره تصيّدهم بين الفينة والأخرى للمتابِعات الجميلات.. تفو!

لكن للأمانة، الأنثى الوحيدة التي قبّلت حلمة ثديها الأيسر أعادت إلى ذاكرتي شكل صدر أمي.. عامان من الرضاعة، الالتقاف الأول، وشكله حال إرضاعها سابع إخوتي .. ياللهول! تسعة أفواه التقفته بمن فيهم فم والدي طيلة تسعة وعشرين عاماً!.. إنني حزين إلى أبعد حد .. يا إلهي ما الذي فعلته ذرة الأوكسجين تلك لتلقى كل هذا الاستنزاف؟!، ما الذي فعله مكعّب السكر يا إلهي كي يتلاشى هكذا بالدوران حول نفسه وعلى محيط الكأس؟! أيّةُ جدرانٍ تلك وأي ارتطامٍ هذا يا آلهةَ المدى!

هذه المعضلة، أقصد معضلة أمي وتاريخ الميلاد ورغبتها باختيار أي رقم، وتخطي هذا الإشكال بدوافع إدارة الأزمة، والتعايش مع العالم أياً يكن ذاك اليوم الذي وُلدت فيه … إلخ، هذه المعضلة لازمتني طيلة أعوام، ولا تزال حتى الآن… كل من قرأتُ لهم كانوا يخبرونني إنني أُلقيت إلى هنا مسؤولاً عن كل حرف أو حركة أقوم بها، وأنني مُدان في حرّيتي حتى بأنفاسي هذه، بت أحسب خطواتي جميعها، خائفاً من كل ما يحيط بي، دون أن تعلم أميَ البعيدة تلك أنني قد جننت، إذ ليس بإمكانها حتى تهجئة اسمها نفسه وسط كل هذه الفوضى، ما بالك بتعريف الجنون، أو رغبة توقّف العالم في لحظة بوهيمية! لست أدري متى بالضبط ولدت أمي، مرةً قالت لوالدي (من مواليد ١٩٦٣) إنها لم ترَ الكهرباء في قريتها بريف حلب الشرقي، ويَفترض والدي حينها أن أمي ولدت بعد العام ١٩٧٣، وتحديداً ١٩٧٦؛ لكنها في موضع آخر قالت إنها كانت بالغة حينما قيل إن جمال عبد الناصر قد مات.. وهذا ما يُدخل الأمور بينهما مرحلةً من الفوضى العارمة، مصدرها الوحيد أبي، إذ تسكت والدتي حتى لكأنها تريد أن تختار أي رقم على ألا يكون قبل الـ ١٩٦٣، ليس لصالحها إطلاقاً أن تكون أكبر من والدي سناً، لذلك ربما أحببتُ سيدةً تكبرني عاماً أو عامين، تدعى ديانا، وهي جميلة كقبلة، سريعة كنحلة، حقيقية، أو لأقُل صادقة كضربة سيف… قلتُ سأحدثكم عنها في وقت لاحق.

منذ فترة أرسلت لي أختي الوسطى ناديا مقطعاً صوتياً على واتس أب تغني فيه الـ«موليّة»، أبكاني فأرسلت إليها صوتي مستجدياً إياها أن ترسل إليَّ المزيد؛ بعد دقائق اتصلت بي والدتي عبر واتس أب وقالت بما معناه: ترى من هذا الأحمق الذي أخبرك إنني ألقيت بك إلى هنا لتتدبّر أمرك بمفردك يوال مهبول؟.

حينما سمعت ذلك، تساقطت من عيني بضعة دمعات كنت أدّخرها للندم عن أشياء لم أقم بها.. وتساقطت كذلك قدّامي صور كثيرة لكتّاب وجوديين وعدميين وعبثيين لم تعرف قلوبهم الرحمة؛ أخبرتها أنني أشتاق إليها كثيراً وأن (سارتر العرص خربلي مخي)، وأنني أعزم الأمر للعيش معها، فأبدت استعداداً تاماً.

بعد أسبوع، غادرت والدتي تركيا نحو اليونان، سالكةً طريق البحر دون أن أراها، تجرُّ ستةً من أبنائها، جمعيهم يؤيد الرحلة، وزوجاً لن يميّز أصوات النوارس عن صرخات الغريق، وأعتقد أنهم ذاهبون إلى ألمانيا… ولم يكترثوا لصرخات انتحابي هاهنا، تعالوا خذوني، أو أعيدوني من حيث خرجْت، إن لي قلباً، ولدي ذاكرة جيّدة أيضاً، أتذكّر أنّ لأمّي إذا ما جنَّ الليل حزن كحال الحدائق التي غادرها العاشقون، أتذكّر أن لها في ذلك الوقت سجادة للصلاة تحملها أينما ذهبَت، وخوفاً قديماً من أصوات نعال الجند، كانت تخبِّئنا إذا ما مرّوا في شارع بيتنا تحت عباءَتها السوداء، تخاف علينا عيونَ النساءَ، وغُول المساء، دعاءَ النساء، وغدرَ الزمان……

حسناً لا أحب الشعراء، إنهم عاجزون عن تغيير ما يجري، ولا يكتفون من النواح ليل نهار، وأكثر المتفائلين منهم في الوقت الراهن لايجد موضوعاً يستطرقه إلا رغبة مصّه لتلك الحلمة التي تتراءى له بين الفينة والأخرى، وهو لم يستطع حتى اللحظة تحديدها باسم امرأة واحدة، أو حتى الإمساك بها مغمض العينين .. «حسبنا الله ونعم الوكيل» ههههههه.

حسناً مرة أخرى.. يبدو أن كريكغارد، ودوستويفسكي، وكارل ياسبرز، وهايدغر، وسارتر، وصمويل بيكيت، وكامو حتى كانوا جميعاً محقين فيما قالوا حيال تخلّي والدتي عني.. لا بل بات يبدو لي أن اللغة العربية هي من تكذب أصلاً؛ ها هي ذي الظبية عَبَرَت بحراً على أيةِ حال.

لقد غادرَت والدتي، وخلّتني إلى ما قرأتُ وآنَستُ واستأنسْت .. هذا ما أردت قوله منذ البداية، لكنني أطلت عمداً.. حجّتي في هذا هو قول دوستويفسكي «إنه ليلذ للمرء أحياناً أن يتحدث إلى شخص ذكي»، لا أقصد أني أتحدّث إليكَ بوصفكَ ذكياً، إنما غايتي أنه لَمِنَ الممتع لك أن تُجريَ معي محادثة صغيرة.. إنني ذكي، على الأقل لم أقدم لك والدتي كشخصية مثالية.. إنني أحب نفسي كثيراً رغم كل هذا.. وأحب ديانا، لكنني أعتقد أنني سأنتحر بملء الإرادة والثقة إن لم تقبل فرنسا طلب لجوئي إليها خلال الفترة القادمة.

حسناً.. لقد غادرت والدتي، هذا كل مافي الأمر، أما أنا فسأذهب إلى الجحيم.

عبد الله حسن، كاتب من سوريا

اقرأ أيضاً للكاتب:

عن بطاقة الحماية المؤقتة في تركيا

اللاجئون بين الاندماج وحلم العودة

الستار الحديدي: من قطاع للموت إلى حزام أخضر