in

توماس مان على مقاس عصرنا

توماس مان على مقاس عصرنا
توماس مان على مقاس عصرنا

مقال لـ فيليكس ليندنر، ترجمة: تهاما ياسين
قريباً سيتوجب على مزيد من الناس العمل من المنزل وفق النُّظم الجديدة. ليظهر السؤال ملحّاً: كيف لهم أن يكونوا منتجين وخلاقين وفق الشرط المستجد؟ ولتأت الإجابة أن توماس مان نموذجٌ يُحتذى، لكن بغير وجه حقّ!

تنتمي أسطورة ” الشغيل الملتزم سكنه” – توماس مان إلى تلك الأساطير الأصعب مراساً في الأدب المكتوب بالألمانية. ذلك أن روتين يومه الصارم والدقيق في تقسيمه يصلح أن يكون نموذجاً للإبداع المقونن، بل قل نصراً بطولي الوقع لضبط النفس، لتفوق الإرادة ولتنظيم الوقت أمام ميل أجسامنا الطبيعي للخمول.
“لم يمض يوم، لم يكتب فيه توماس مان”، هذا ما يتردد عنه دوماً حتى من طرف أهل كاره. أما يومه فيمضي بروتينٍ مفصّل: من الاستيقاظ قبل الثامنة، إلى الفطور، فالعمل من تمام التاسعة حتى ساعة الظهيرة، يليه موعد الغداء الخفيف، فقيلولة، ثم ساعة الشاي في الخامسة. ساعتا المراسلة يقضيهما حتى الثامنة حيث يتعشى ثم يستمع لحوار أو موسيقا من الراديو، وينهي نهاره بالقراءة إلى ما قبل منتصف الليل. إذا ما رنا المرء لروتينه من وجهة نظر معاصرة لرآه قدوة، أنموذجاً بطلاً للعمل من المنزل: امرؤٌ يمتلك حيزاً مكانياً مستقراً في محيطه الأسري الخاص وفسحات زمنية مضمونة لممارسة مهنته.

متذمراً من كل شيء..

لكن من يشتغل على مذكرات الرجل بإسهاب وعلى تدوينه الخاص لمسار يومه، يواجه صورة نقيضة: حيث تحفل الأخيرة بمفردات من قبيل: استعصاء الكتابة، التثبيط، العمل مكرهاً، التذمر بسبب عدم القدرة  على إنجاز العمل ضمن الأمد المحدد، الغضب من التأخر اليومي في الاستيقاظ والقراءات الليلية الطويلة. لا يواجه المرء على مدى حوالى الـ 4300 صفحة بطلاً للإنجاز وإنما رجلاً دوّن دقيقة بدقيقة كل مصادر الإزعاج في يومه والكفيلة بجعل رتمه المنشود غالباً ضرباً من المستحيل، وهنا ترد ملاحظاته على قلة تهذيب الكلب، عدم لباقة ربة المنزل، ضجيج الأطفال إلى معاناته من المغص المعوي بسبب تناوله كميات كبيرة من عصير البرتقال، لتجعل من كل ما سلف ممكن الحدوث. ويبقى مدعاة للسؤال، إذا ما كان التذمر بحد ذاته مجدياً وإذا ما كان فعل المساءلة يسهم حقاً في إنجاح المهمة المنشودة لاحقاً. 

يلعب منطق ” المساءلة اليومية” كما يسميها الرجل، وبصورة طبيعية، في تشكيل سدٍّ أمام انجراف المرء الفطري إلى المماطلة والتسويف. فإن نمت راضياً على معدل من الإنتاج اليومي يفوق معدلك المعتاد وليكن هذا المعدل ثلاث صفحات أو ما ينوف عنه، فلن تبقى مؤرقاً بتسجيل رقم قياسي جديد.
ما تعكسه تدوينات توماس مان اليومية إذاً، هو كفاحه المستمر للوصول إلى صيغة مثلى ينشدها لنفسه. من خلال هذه الآلية منهج إنتاجيته في مواجهة خطر العطالة والفشل المحدقين. لا يُلبّى مفهوم الإنتاجية وفق هذا السياق في تكرار نفس المنجز على مدار الزمن، بل تحقق المساءلة جدواها في البحث عن معوقات تنفيذ هذا الروتين لتلافي تلك المعوقات، بالتالي دوام المثابرة.

أسطورة الطبقة العاملة..

يبقى الإشكالي في أمر توماس مان، أن تدويناته تُحيل إلى الكمال، الذي يدفع بالأجيال القادمة أو اللاحقة له، تلك التي لا تلتقط منها إلا عناوينها العريضة، إلى الاعتقاد بأن روتيناً يومياً مثالياً، على الأقل لفترة تطول أو تقصر أمرٌ ممكن. وهذا غير صحيح البتة، فبدلاً من ذلك يواجهنا في مدونات توماس مان تمازج الخجل بالشك مع محاولاته العبثية حيناً وحماسه المتقلب للعمل حيناً آخر.
تنص هذه اليوميات على مواعيد استيقاظ الرجل التي تراوحت من السابعة للعاشرة!، فإما أنه والحديث هنا للكاتب “استيقظ مبكراً جداً” أو “عن غير قصد في السابعة”، “تأخر في الاستيقاظ”، “ضحّى في نومه وتأخر”، “نام حتى وقت متأخر” أو “نام طويلاً، وعاد بصورة متكررة للسرير”. تقلب مزاجه في العمل من “حيوي” و”مفعم بالهمّة”، إلى وبصورة أعم “متعب”، “مُستلب”، “غير فرِح”، “متبرّم” و “معذّب”. 

وبالحديث عن ساعات العمل الثلاث المفترضة والتي تحوم حولها الأقاويل أنها من مكنته من جائزة نوبل فنراها تارة تقلصت إلى ساعة واحدة أو ساعة ونصف، فأنجز بالضرورة خلالها “أقل” من المتوقع أو “نسبة متواضعة” من العمل، أو مضت تارة أخرى “دون إنجاز” يُذكر، “دون طائل” أو دون عمل بتاتاً. 
لكن كان لابد من بذرة للحقيقة لتتكاثف عليها المبالغات والاستطرادات لتتحقق الشائعة المدعوة توماس مان، والتي تنص أن روتيناً ما كان ولكن على صورة أمنية.

لمَ لمْ تبطل هذه الأسطورة على مرّ الأيام؟ لأسباب عديدة. أحدها، ما شكّله توماس مان من علامة فارقة موصّفة للطبقة الوسطى المتعلمة، والتي كرست هذه الأسطورة عن طيب خاطر كجزء من تعريفها لذاتها. كما ساهمت في هذا علاقاته العامة والتي تبدت زمن توماس مان في رسائله، فكان رجلاً ذا ” روتين يومي منظم رتيب وخال من التوقعات كميدان عمل” وذا ” شكل حياة منظم “.
هذا ما تم تداوله، حتى أن من تلقى من توماس مان رسالة مكتوبة في وقت ذروة عمله أي قبل الظهيرة فخُر لنيله هذا الشرف. 
وتتوالى أسطورة أسرة توماس مان، في مذكرات الطفلين كلاوس وإريكا ومقابلات زوجته كاتيا. كذلك يورد كلاوس برينغسهايم، أخو زوجته في تقريره عن توماس مان عبارات من قبيل: “كان توماس مان غالباً قبل الثامنة مستيقظاً وعلى أهبة الاستعداد” و” كان يبدو صاحياً تماماً ومستعداً للعمل”. المفارقة أن واحدة من أكثر الكلمات استعمالاً في يوميات توماس مان المنشورة بعد وفاته مفردة “تعبان”!.

لننفذ عمقاً لنرى أن السبب الأهم في تكريس الأسطورة غير متعلق بالرجل، بل هو الجهود المبذولة في زمن علاقات العمل المتأزمة لصنع صورة افتراضية مثالية أو قدوة للإنتاج، من خلالها يتم تسويق إمكانية تنظيم يوم العمل وتحقيق روتين خلاق مبرم خالٍ من المعوقات. أحدثت هذه الفكرة مبكراً ليس فقط ظاهرة مستشاري الإبداع في السوق، إنما سلسلة من المفارقات في هيئة عدد لا يحصى من ورشات العمل التي عنيت بحالات استعصاء الكتابة مثلاً. لم يكن بإمكان كل ذلك التحايل على يأس توماس مان المجهَد وعدم رضاه المفضوح الذي ظهر على السطح من جديد. 
على السواء مما سلف وبتناقض معه في آن، يبقى من الطبيعي أن يصطدم المرء بصورة توماس مان حامل جائزة نوبل شاهداً على أن النجاح قابل للتحقيق من خلال الالتزام بخطط محكمة.

امتيازاتٌ بسبب إنجازات الآخرين..

أما ما يمر عفو الخاطر، فهو كم الامتيازات التي حظيت بها أيقونات إبداع كتوماس مان والتي استوفت روتيناً صارماً. مثلاً، أوكلت مهمات محددة لبقية أفراد أسرته، ولم يكن قلب الأدوار في هذه الرواية وارداً. يتساءل المرء، كيف كانت لتكون عليه الحال إن لم تتكفل كاتيا مان باتصالات زوجها الهاتفية أو لم تحضر الفحم إلى البيت في الشتاء، إن لم ترتب إيريكا مان أوراق والدها، تحرّر، تدير التركة وتلعب دور السكرتيرة؟ كم من الأدب كان ليفوتنا دون عنايتها، هي المسؤولة عن إغلاق غرفة مكتب والدها بإحكام.
إذاً، تحقق الروتين الصارم بفضل إنجازات الآخرين، قبل كل شيء – ولنواجه عالم توماس مان الغامض بكلمة عصرية قبيحة – بفضل رعاية كاتيا مان له. والتي لم تُعنى بستة أطفال على مدى الأيام فحسب بل بسبعة أشخاص بحاجة للرعاية، كان لا بد لها من التحايل على متطلباتهم والمناورة فيما بينها. 

خلاف ذلك، وفي استعراض عام للنماذج المبدعة، نبقى عاجزين أن نسجل مدى الأذى النفسي الذي قد تحدثه المقارنة بهم، كمّ عدم الثقة بالنفس أو سلوك جلد الذات الذي من الممكن أن تثيره. والذي ما كان ليحدث لولا تلك المقارنات. ذلك أن من لم يستطع رمي المهمات المنزلية وغيرها من تصاريف الحياة على عاتق أفراد أسرته أو موظفين لديه، حكم على نفسه قهرياً أن يفشل وجودياً، ذاك الذي ضلل نفسه عامداً أو غير واعٍ أمام سطوة أسطورة توماس مان.
عاملات المنزل الذي خرجت منه رواية توماس مان (بودنبروك) هنّ الأدرى، أن المهام وزّعت عليهن كما لو أنها غرافيك يسطره الفنان الذكَر لروتين يومه المفترض وكأنها مفاضلة في أداء سيارات مختلفة الطراز.

وبالحديث عن طراز السيارات، يتذكر سكرتيره كونراد كيلين كيف خُلقت مخطوطات توماس مان” وكأنها منتج صناعي منجز على سيْر التجميع”، ” تكاد كل جملة تنساب من ريشته مسترخية ودون عجالة، صائبة، موافقة تماماً لمقصده منها وناضجة”. هي جمل اقتبست من كتاب كيلين الصادر بعد وفاة توماس مان بعنوان (رب عملي الساحر) والذي ينوّه للقب توماس مان الشائع. ليس بسبب (جبل السحر) رواية توماس مان، كما أعتقد أغلبهم، وإنما لأنه تنكّر في إحدى الحفلات بزي ساحر. 
اليوم، حيث يتحول كثرٌ من العمل في مكاتبهم إلى العمل من منازلهم، على المرء ألا يُضلّل على يد هذا الساحر: لأن من فِعل السحرة أيضاً، ألا يدعوا أحداً يدرك، كيف يمارسون ألاعيبهم. 

هذا المقال مترجم من موقع Zeitonline بعنوان “Thomas Mann: Der Autor und sein Homeoffice” للاطلاع على النص الأصلي اضغط هنا

تمديد الإغلاق في ألمانيا حتى 18 أبريل وفرض قيود صارمة في عيد الفصح

رسمياً.. تمديد الإغلاق في ألمانيا حتى 18 أبريل وفرض قيود صارمة في عيد الفصح

10 كلمات ألمانية توجب حتى على الألمان تعلمها في زمن كورونا

10 كلمات ألمانية توجب حتى على الألمان تعلمها في زمن كورونا