in

بلا فوران؟

اللوحة للفنان أنس سلامة
قحطان حربات.

 

كما اليوم، ومنذ ثلاث سنوات.. حملت حقيبتي.

لا تؤلمني إلا حقيقة عدم تذكري لوجه أمي في ذاك الصباح. اليوم، وبعد ألف ومحاولة، قررت تغيير المكتبة الاعتيادية والذهاب إلى المكتبة الوطنية الشهيرة.

أنا هنا للمرة الأولى، المكتبة هادئة يزيدها دفئًا مخملُ الكراسي الأحمر، وتضفي رائحةُ الكتب جوًا من السكينة، الساعة الآن السابعة مساءً وهو وقتي المفضل، لا شمس تزعجني، معي مشغل الموسيقا وقلمي المفضل.

باسمك اللهم نبدأ، ولتكن الاحتمالات والتوزيعات الاحتمالية..

أحاول التركيز قليلاً، أقرأ بضع سطور وأقول في نفسي: ” كرهت الاحتمالات في حمص، وأكرهها حتى في باريس، هل يوجد كون مواز حيث أحب الاحتمالات؟ ما احتمال وجوده؟”

أرفع نظري مبتسمًا، لوهلة، لم أدرك الذي يحدث، تسمّرت عينياي في عينيها، بضع ثوان مضت وأنا مأخوذ، وبفضل نبضة من قلبي عاد رشدي إلي، ولكن: لم ينبض قلبي هكذا منذ زمن بعيد، ربما منذ حمص.

بيننا خمسة أمتار على الأكثر، ولكني أحس بعينيها أمام عينيّ، أكاد أشمّ ذرات النمش فوق خديها، عجبًا ما الذي يحدث لي؟

إنها هي، مُنتَظرَتي.

أمامها حاسوب شخصي ماركة ديل، لحسن الحظ هي ليست من أنصار ستيف جوبز -هكذا أصنف البشر  فهم إما ويندوز او ماك- لمحتُ انعكاس شاشة حاسوبها على النافذة خلفها، ياللهول هي ممَن يثبت اللينوكس على حاسوب مخصص للويندوز، إنها خارج التصنيف، إنها ملاك.

أمامها كتاب بعنوان فلسفة العلوم، وكأنني أحلم. يتدلى من حقيبتها طرف مريولها الأبيض، إذا فهي من ذوات العلوم التطبيقية. هنا بدأت أرى دلائل وجود الرحمن، مدد مدد.. يا وحيدًا يا أحد.

مع بضع تفاصيل تافهة..

لا تستخدم طلاء الأظافر، كما أفضل، ولا تضع مساحيق التجميل كما لا أحب. سأسرق نظرة أخرى علّي أرى تفاصيل أوفى، فنظرة واحدة لم تروِ قلبي، لا أريدها أن تلاحظ شغفي من اللحظات الأولى، فهي: هِيَ.

تناظرني من انعكاس النافذة الأخرى، تضع سماعات في أذنيها، جميلتان، وكل واحدة بحلَق مختلف عن الآخر، تبًا للتناظر، أنا أكره التناظر، وهي تعرف ذلك، تُدرك ما أحب.

خمس خطوات بيننا.. أحسُّ بالقمر أقرب إلي من خصلة شعرها.. حسنٌ، ولِم لا؟ سآتي بكتاب من الرف خلفها…علني أحظى بنسماتٍ كانت قد داعبت شعرها.

بخطوات متثاقلة وكأنني أريد أن آتي بذاك الكتاب تحديدًا، أقترب منها، وأتعداها دون إلقاء أيّة نظرة.

لا تضع طوقًا في جيدها، وأيّ طوق يرقى ليشوب نقاء نحرها، لا خلخال في قدمها..  تلك ستكون هديتي الأولى، وستحبها.

أسترق النظر إلى شاشة حاسوبها، شوبرت، السيمفونية التاسعة، يا لها من امرأة، إنها هي، لا مجال للشك.

أنا في مكاني منذ عشر دقائق ألاحق انعكاسات وجهها على النوافذ، ها قد عادت صديقتها التي كانت تدخّن في الخارج، هذا يعني أن حبيبتي لا تدخن، لم أشك ولو لوهلة.

تأخذ الصديقة حقيبتها، تعطيها قبلتين، وكما أفعل أنا مع المدخنين، تَجنبَت الشهيق مع القبل المترامية على الوجنات، لم أفاجأ، حتى لو ظهر بأنها حمصية، لن أفاجأ.

يجب أن أذهب إليها، لن أعترف بحبي اليوم، ليس بهذه السرعة، لا أريد اخافتها، كيف سأخيفها وأنا…. أنا الخائف.

تبًا، لماذا يحصل هذا الآن، لم أكُ يومًا بمثل هذا التردد، سأدعوها لفنجان قهوة، نتحدث قليلاً عن الدراسة وفترة الامتحانات، ستبدي إعجابها بإتقاني للّغة الفرنسة، وبدوري سأشكرها على مجاملتها اللطيفة، ستردد ما تعرفه عن اللغة العربية، سنتكلم قليلاً عن الأطباق الشرقية، ثم سأقترح عليها تذوق القهوة السورية، سأدعوها إلى المنزل، معقبًا بأني أسكن في بناء طلابي بمطبخ مشترك، سيدعوها هذا للاطمئنان، وسأغلي القهوة بكثير من الشاعرية، وسأحكي لها عن أوجه الشبه بين القهوة والمرأة.

سأسرق لها بترجمتي المتواضعة بضع أبيات شعرية عن القهوة والحب، لن أغضب إن أرادت بعض السكر في قهوتها، سألقّنها مع الوقت بأن قليلاً من السكر في القهوة، يمحو صفة القهوة مما في الفنجان.

لكن ماذا لو أرادت الحليب في قهوتها؟

فليكن، لها ما تريد.

ترفع رأسها موجهة نظرها للسماء، فليساعدها الرب. تتجه إلى البهو حيث تصطف الكتب المنتظرة أناملها. فأنهض بكل ما أوتيت من هيام.

  • مساء الخير.
  • مساء النور (بابتسامة خجولة أظهرت ما تيسر من بهاء ثغرها)
  • أعتذر عن الازعاج.. هل استراحتك الان ؟
  • نعم..  نوعًا ما
  • هل لي بسؤال صغير؟
  • بالطبع
  • برأيكِ، هل أصل الرياضيات عقليّ أم تجريبي؟

ضحكت …. وبدأت أغرق في عينيها

قالتْ: هل هذا سؤال صغير؟

قلت لها: خمس كلمات…. أليس صغيرًا؟

قالت: ماذا تعرف عن النسبيّة؟

تبًا، “أقول في نفسي”: أحبها منذ الآن، تُلي ذلك بعدّة جمل لا أذكر منها شيئًا، لكنها أبدت إعجابها بما أحمله من لكنة، أبدت اهتمامها بالرياضيات، شغفها بالكيمياء العضوية، وحدثتني عن سبب اختيارها لها، عيناي تنهل من عينيها، تتسع حدقاتها، أستطيع الشعور بنبضات قلبها، أقل من متر بيننا، منذ الآن.. بدأت أحس بطعم شفتيها، رائحة راحتيها، وبخصلات شعرها بين أصابعي.

  • قهوة؟
  • آسفة لا أشرب القهوة
  • لماذا؟
  • لا أحبها، ولكني أعشق الشاي، أنا أقطن قريبًا من هنا، ما رأيكَ بكأس شاي ساخن؟

بخطوتين للوراء…

  • أعتذر لإزعاجك، ليلة سعيدة

أضع خيبتي في حقيبتي، سوف لن أعود إلى هنا أبدًا.

قراءة في كتاب ” مزهريّة من مجزرة ” لمصطفى تاج الدين الموسى

One Year in Berlin