in

اليأس السوري أحاديث الهاربين وأمال العودة

اللوحة للفنان شادي أبو سعدة

جهاد الرنتيسي* كُتب هذا النص من وحي مشاهدات الكاتب الذي يعيش في الأردن، خلال توليه تدريب اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان على العمل الصحفي، في دورة نظمتها مؤسسة “ماجد أبو شرار” الإعلامية.

معلوماتي عنه قليلة، عبرت أزقته ذات زيارةٍ للمدينة والتقيت “سهيل الناطور” في مكتب للجبهة الديمقراطية، كان دليلي يومها الصديق “صقر أبو فخر” ووجدنا أنفسنا في أحد البيوت. حين تنحينا جانباً لتمر دراجة نارية علمت أننا على مقربة منه. حين دخلنا إلى كنيسة لتقديم العزاء باستشهاد “جورج حاوي”، في اليوم التالي مرّ مروراً خجولاً خلال ضجة فيلم “القضية 23” الذي أخرجه “زياد دويري”، واقترن اسمه في الأحاديث العابرة بأنه الأفضل حالاً بين مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان!

تظن نفسك صاعداً إلى السماء، وتخشى التدحرج إلى الزاروب المحاذي لبقالة على مدخل مخيم “مار الياس”، حين تتسلق انتصاب سلم بيت أطفال الصمود، ببلاطاته التي تتسع لمنتصف راحة القدم، صاعداً إلى القاعة المخصصة للتدريب، حيث تلفت نظرك صور لإدوارد سعيد وناجي علوش ومعين بسيسو اصطفت بين أخرى على الجدران. تعتاد على أنك أول الواصلين إلى تلك القاعة، والانتظار بضع دقائق لتأثيث المكان بالأنفاس وبعض الصخب، وتبادل الاكتشافات بينك وبين متدربي الصحافة، القادمين من مختلف مخيمات اللجوء والتجمعات الفلسطينية في لبنان.

يستدعي وجود اللاجئين من مخيمات سوريا إلى لبنان في قاعة التدريب، ما يطفو على السطح من مشاهد اللجوء السوري إلى الأردن وتركيا، وأحاديث عن “البلم” الذي جسّر ما انقطع من حوار حول اختلاف وتباين الحضارات على ضفتي المتوسط، وخطاب شيطنة اللاجئ الذي سعيت في أكثر من مناسبة للرد على عنصريته وإرثه الاستشراقي بمقالةٍ هنا أو هناك. سوريا ومخيماتها ومضة حلم في أحاديث الهاربين من جحيم الحرب إلى بؤس الفراغ ببقايا أمل، قد يوصلهم في أحسن أحوالهم إلى الضفة الأخرى من المتوسط، أو يتبدد ليبقى ندبة في ذاكرة مثقلة، تحاول البقاء رغم ما أصابها من وهن.

يحتاج الوصول إلى جمعية “مساواة” وإجراء حوار تدريبي مع رئيسها المقعد “قاسم صباح” المرور بمتاهة، أزقة متشابهة مرشومة برايات الفصائل وصور الشهداء، يتسع معظمها لمرور شخصٍ واحد في أحسن الأحوال. تستوقفك في حديث صباح أكثر من معلومة لتتركك نهباً للتداعيات، بينها ما يتعلق بتعامل المانحين مع ظاهرة اللجوء وفق مفهوم “الموضة”، حيث احتل اللاجئ السوري القدر الأكبر من الاهتمام وتراجعت حظوظ الفلسطيني، مما اضطر منظمات المجتمع المدني لادخال برامج خدمات للاجئين السوريين على أمل ضمان تلقي التمويل الذي يعينها على الاستمرار، وتعلق في الذهن قصة اللاجئ السوري المريض بالكلى الذي رد على تعليمات برنامج البقاء على قيد الحياة بأنه لم يعد راغباً بالحياة.

اللوحة للفنان شادي أبو سعدة

تبكي متدربة قدمت من مخيم اليرموك واستقرت في عين الحلوة بحرقة، حين يصف الروائي “مروان عبدالعال” مخيمات سوريا بـ”لجوء سبع نجوم” حين تقاس بـ”مخيمات لبنان”، وذلك خلال حوار في مكتبه القريب من زقاق بيت الصمود، وتبذل “سماء أبو شرار” جهداً في تهدئتها، لكنها لا تستطيع وقف سيل أسئلتك حول الشريط الذي مر في ذاكرة الفتاة قبل أن تنفجر باكية.

تشدّك أحاديث الشبان والصبايا إلى عالمين، أحدهما في الجنوب والآخر في البقاع، لتكتشف أن بين اللاجئين من فضّل البقاء قريباً من سوريا على القدوم إلى بيروت، بعد أن وجد في مناطق لجوئه الجديد وأهلها شبهاً أكبر مع سوريا والسوريين الذين عاش بينهم.

“ربا” كتلة من الحيوية والنشاط، التقيتها قبل ما يزيد عن العام خلال تطوعك للتدريب في دورة سابقة أقامتها المؤسسة في مدينة صيدا الجنوبية، كانت أكثر اندفاعا وحدة واستعدادا للمواجهة، وتظهر اليوم ميلاً للبعد عن الانفعال، والتفكير الهادئ في التفاصيل المصاحبة لتحولات اللجوء والبحث عن منافي جديدة.

يروي كتاب “حكايات من اللجوء الفلسطيني” الذي أصدرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية وأشرف عليه “حسن داود” قصصاً كتبها لاجئون عن يومياتهم ومراحل مروا بها خلال وجودهم في لبنان. يتجاوز الحضور السوري في كتاب الحكايات الذي أطلقته المؤسسة في معرض بيروت الأخير الاشارة العابرة التي تضمنتها حكاية “نادية فهد” حول جارتها “النازحة السورية”، التي نجت وطفلتها بإعجوبة من الصعق الكهربائي في المخيم، إلى فيض حكاية “ربا” المطلة على حميمية تجربة غابت عن التغطيات الاعلامية المسطحة لعذابات سوريين وفلسطينيين اجتهدوا في اختيار وجهتهم الاخيرة بحثاً عن شروط حياة أكثر انسانية.

في الحكاية خارطة نابضة لجغرافيا تحولات لجوء العائلة وتشتتها، تكاد خطوطها الاولى أن تبدأ من مخيم اليرموك لتمر بلبنان إلى المانيا وهولندا وتركيا واليونان، ولا تنقصها تفاصيل دقيقة لمعاناة إثبات الولادة للمواليد الجدد والهروب البحري ومقارنات بين بلد اللجوء الاول ومحطة اللجوء الاقسى.

مخيم اليرموك في النص الذي لا تملك إلا أن تقرأه بشغف وطن، تصفه “ربا” بـ “جنتنا العظيمة سوريا”، ويوازي حلم العودة إليه في مواضع اخرى من “الحكاية ـ الشهادة” رغبة الرجوع إلى طبريا، أو الهجرة للالتحاق بالعائلة المبعثرة في أوروبا.

تفرّ من خزان الحكايات عصراً إلى مكتبة بيسان في شارع الحمرا، تسأل عن بعض الكتب وتتمعن بالعناوين المصطفة على الأرفف، يتجاذب معك صاحب المكتبة الحديث لتجيبه دونما تفكير “نحن يتامى الدمار السوري” وتلاحظ على ملامحه الانبهار بالعبارة العابرة. تردد مع مواصلتك قراءة كتاب حكايات اللجوء عبارتك “كلنا في الهم شام”، دون أن تفارقك الأسئلة حول العذاب الفلسطيني الذي لا يكتمل دون الالم السوري، ووجع السوريين الذي يتسع بمشاركة الفلسطينيين عذاباتهم، والعالم الذي يضيق باللاجئين واللاجئ الذي يدفع فواتير شهوات السلطة وإقصاء الاخر.

جهاد الرنتيسي* صحفي وكاتب فلسطيني من الأردن

 

اقرأ أيضاً

الهزيع الأخير

عندما تفرطُ الحرب رُمّانَها

لا الوقت و لا الشجر و لا المجازات

الثقافة والهويات الثقافية وتنازع الإرادات

عن بطاقة الحماية المؤقتة في تركيا

دراسة لتحسين آلية توزيع اللاجئين من أجل زيادة فرص الحصول على عمل

بالفيديو: بعد ثلاث سنوات من استبدال طفلين بعد الولادة، ماذا قررت هاتان العائلتان أن تفعلا؟