in

الحمار والجزرة

الحمار والجزرة
اللوحة للفنان وليد المصري

سِتٌّ وثلاثون ربيعاً مضوا ومازلت أنتظر قدوم ربيعي، وأنّى له أن يأتي! وفي كل مرة تعدني وتأتي إليّ في الخيال بحِلّة أحلى من الأخرى، زاهراً تماماً كما وصفوك.

فمنذ نعومة أظفاري وأنت تأتيني كفارسٍ عزيز النفس كريم الخُلُق يجعل من أنثاه أميرةً ولو دون جاهٍ ومال، ولمّا تقدّمت بالعمر قليلاً وماعُدْتُ طفلةً صرت أنت الطفلة الشقيّة التي سأرزق بها، وكم مرّةً أتيتني كشهادةٍ علميةٍ أحصّلها ويفتخر بها أبي، ومرّاتٍ كمنصبٍ وظيفيّ يُدِرّ عليّ مالاً وفيراً وينتشلني من بؤسي وشقائي، ومهما امتد بي العمر لن أنسى آذار ذاكَ الذي وعدتني فيه بالحرية في بلادي، أو حتى بعده بأملٍ بالحياة في البلاد الغريبة!

أنا الصِدّيقة التي ما ملت تصديقك يوماً ولا تابت عن الإيمان بك! أنا المسافرة في الصحراء وأنت ذاك السراب المستحيل المنال، ترفق بي فقد أضناني الظمأ، وكلما جريت نحوك تتلاشى وأعود بخفي حنينٍ كمن كان يحاول إمساك الماء بيديه المجردتين! 

كلما ظننت أنك أتيت وأردت أن أعاتبك أو حتى أن أسألك عن حالك؟ تتملص من كل خطاياك وذنوبك وتخرج من المكيدة كالشعرة من العجين وتتشدق وتقول: هذا لست أنا أيتها الحمقاء! هذا حاضرك القبيح الكريه، أما أنا فما زلت وسيماً براقاً وبعيداً! ويحك ما أصدقك وما أكذبك! يا أكبر المكارين، في كل مرة تتمكن من خداعي، فأنت حقاً لم تأتِ بعد! ونحن محكومون بالأمل!

ومحكومون بالخوف منك! نخشاك ونحسب لك ألف حساب لأننا لا نعرفك، ونحن أعداء ما نجهل! انظر كيف أفقدنا جهلنا فيك صوابنا حتى صرنا كالمسعورين نبحث عنك في كل زمانٍ ومكان أو حتى عن إشارةٍ صغيرة قد تدل عليك!

فمنذ القدم بحث أجدادي عنك في كل بِقاع الأرض، ولما لم يعثروا لك على أثرٍ، فتشوا السماء عنك وحاولوا استقرائك وكشف خططك ومؤآمراتك في تحركات النجوم والكواكب، مساكين ظنوك رئيفاً بنا بحيث أنك قد دمغت علينا بكل وضوحٍ قدرنا ومصيرنا قبل أن نأتي، فذهبوا حد تفسير خطوطٍ عشوائيةٍ في الكف على أنها رسالةٌ صريحةٌ منك، ولم يوفروا حتى فنجان قهوةٍ ربما شرِب على عجلٍ ورمِي فقط في سبيل قراءة نواياك في خطوط بقاياه. ورغم يقيننا من أن ما من أحدٍ رآك وما علمك إلا عند الله وحده، فلم يعتش منك المشعوذون الدجالون وحسب، وإنما اغتنوا ونهبونا بحجتك! لقد باعنا السحرة السمك في البحر وكالمجانين اشترينا! وقد كذب المنجمون ولو صدقوا!

وهم كاذبٌ أنت، أملٌ مضللٌ مراءٍ! لطالما عشمتنا بحسنك وبهاءك وصبرتنا على حاضرنا البغيض حتى نسينا أن نحياه! ما سكتنا عن الظلم والضيم لولاك، أنت من سلبنا ماضينا ومازال يسْلبنا الحاضر! لقد تقنا إليك وسعينا نحوك حتى أوديت بنا إلى التهلكة، كالحورية الحسناء تنشد أحلى الألحان بصوتها العذب، كي تغوي البحارة وتوقعهم في شرك سحرها، ثم بكل وحشيةٍ تحطم سفينتهم على أشد الصخور وأقساها!

وما أراد أحد خداعنا إلا وسمحت له بالإدعاء بأنه سوف يصير وسوف يكون وبأن الغد أحلى! كالحِمار سيرونا وراء الجزرة! ومازال الحمار يكد طوال العمر في سبيلها وهيهات له أن يتذوقها! ومازلت أنت حتى الآن قابعاً هناك في قصرك العاجي البعيد، تمسح بمآسينا يديك الملطختين بالدماء وتراقب مجازِرك بكل برود!

فما ظلِم ثائرٌ ولا أسِر حر ولا شرد إنسانٌ وسمي لاحقاً بلاجئ إلا باسمك، ولا ضاع كد كادح في سبيل أطفاله الصغار، الذين رآهم بأم عينيه فيما بعد يدفنون تحت الأنقاض، إلا بسببك! ولا ضاع حليب وسهر امرأةٍ، شهدت غرق فِلْذات كبدها قبلها في البحر، إلا بسببك! أيا أعظم السفاحين، في رقبتك كل الدم الذي سفِك على مر العصور!

ما دب عاقلٌ على وجه الأرض إلا وكنت له أكبر مخادع! حتى الكلب يدفن عظمته خوفاً منك وخشيةً من تبدل أحوالك! إنك ثمن الوعي ولا نبرح ندفعه، لعنة العقل والوعي أنت، سخرية العقل منا نحن العقال!

وها أنت قد غررت بجميع الموتى ومازلت تغشنا نحن الأحياء إلى أن نفنى! فنحن مدمنون على التفكير فيك! مسلمين لك! أو مسلمين بالأمل فيك ولا سبيل آخر لدينا! في انتظارك لا حول لنا ولا قوة، لذا ترانا نصورك زاهياً بهياً لأننا ببساطة لا نقدر على متابعة هذي الحياة وتحمل مشاقها دون هذا الرجاء! ولا نريد أن نفقده ولا نستطيع حتى وإن أردنا.

ولكن أيعْقل أن تكون بريئاً صامتاً ونحن من أنْطقناك أو ادعينا بأنك نطقت؟! وإن كان الأمر كذلك فأنت لست بريئاً، بل إنك لأشد ذنباً! تعال تفرج كيف جعلتنا بجهلنا فيك منافقين مثلك!

وكيف جعلنا الهلع حالمين نلونك ونسبغ عليك أسمى الخصال وحتى العدل! لقد خلقنا بفلسفتنا الجنة والإله العادل الذي سوف ينْصِفنا نحن المعذبين ولو بعد حين! جعلنا منك بخيالنا جنة بعد الموت أيها الآثِم! فكم مؤمنا سلبته دنياه بالأمل فيك وبجنتك الموعودة! وكم من شهيدٍ بحجتها سرقت ربيع شبابه!

كم هزمتنا جميعاً أيها الغيب وما انتصر عليك إلا من عرفك، فكل من آمن أن وجهك حقيرٌ مشؤومٌ لا محالة، اكتشف المفر الوحيد من لعبتك وانتصر عليك بالانتحار! وأنت لا تفتأ تكرر نفسك معي بذات الشناعة حتى قبل تفتح وعيي! بل كلما ازددت وعياً تزداد أنت شراً! إني أراك شيطاناً وأرى شرك الآتي أشد وأفظع مما سبق! وها أنذا قد عرفتك، فما أنا فاعلة بمعرفتي القاتلة هذه؟! أأدع يقيني بِك يقتلني؟! سألت الكأس في يدي وقد نضِبْ، فأجاب: قد عرفته لكنك لم تعاشريه بعد، فهل عرفته حق المعرفة كما عرفتني؟! فقلت: حاشاك أيها الصاحب الوفي! أين هذا الغدار المتقلب من اخلاصك وولائك المطلق؟! هو بتأرجحِه يضْرِم النيران في قلبي حتى يكاد يغادرني، أما أنت أيها الطيب ما احتجتك يوماً إلا ووجدتك تطفئ حرائقه في روحي العليلة وتعيد السكينة إليها. فقال: املئِيْنِي مجدداً إذاً ولا تتركيني أبداً، اشربيني حتى الثمالة فلا يعود عقلك إلى إدراكه، تسلحي بي من غدر أيامه القادمة وانتقمِي منه، تناولي قلمك الآن واكتبي للآخرين عن حقيقته الضبابية المغْرِية كما عرفتها وافضحي كل فظائعه وجراِئمه النكراء.

اشربيني اشربِيْنِي اشربيني حد نسيانه بيسارك واكتبيه اليوم قدرك بيمينك.

ميس محمد غيبور. كاتبة سورية مقيمة في ألمانيا

اقرأ/ي أيضاً:

سلمان، أخي
الرد بالأدب على محاولات شيطنة اللاجئين
اعتبارات الخاسر
قصة قصيرة: علاقة ورقية…

صبي عراقي ضحية جريمة

صبي عراقي ضحية جريمة طعن مجهولة الدوافع في ألمانيا

CORONA – Viel mehr als nur eine Gesundheitskrise