in

أَجبْني ما العمل…!؟

اللوحة للفنان ياسر صافي

مسرحية من فصل واحد بقلم علي جازو*

(شخصان على رصيف شارع ضيق فارغ. الوقت مساء، عتمة كثيفة تمتزج أحياناً بإضاءة خافتة من مصباح أرضي قريب).

الأول: لقد وعدتَني…

الثاني: كنتُ حزيناً. كيف تطلب من حزين أن يفي بوعد!

الأول: أنت تعترف، إذن لذلك… (يقاطعه الثاني)

الثاني: دائماً يحدث لي ما يحدث! أتدخل في شؤون غيري، على أنني راجح الفكر والبصيرة، ثم سرعان ما أنسحب وأتوارى. دائماً يحدث لي ما يحدث حولي! ما شأني أنا؟

الأول: هذه هي المسألة، المسألة كلها. على كل حال أنت مسؤول..

الثاني: ما لا يتكرر هو ما يعذبني. ما لا يمكن أن يخلّد إلى الأبد؛ هذا الذي يحدث مرة ولا ينتهي؟!! حقاً كان على حياتي كلها أن تتكرر أمامي، ما يحيا ولا يعذب أحداً سواي. لقد تدخلتُ لأنني- مثل كل من يتدخل عن حسن نية- عرفت بالأمر محض صدفة، وكان علي– مثل الجميع.. آه من هذا الجميع- أن أتدخل وأرضخ لرغبتي. الآن أدركت أن الأمر لم يكن يعني سوى مرة واحدة، مرة واحدة فقط.

الأول: أنت تعترف. لذلك أنت تعرف أنه لا فرق، أنت مثل الجميع. ألم تقل إنك مثل الجميع، واحد من هؤلاء الجميع؟

الثاني: مرة واحدة وحسب! رغم ذلك تراجعتُ، وأنا الآن أتعذب، أتعذب دون سبب! دائماً ثمة من يصمك ويخرسك بهذه الكلمة: هكذا هي الحياة، هكذا هي الحياة، كأنها بئرٌ..

الأول: ينبغي أن تتحمل تبعات أفعالك. هكذا هي الحياة؛ واحدة بواحدة دائماً أبداً. ولأنها كذلك دائماً ينبغي أن تتحمل تبعات أفعالك كي لا تلفظك الحياة من فمها كحلزونة تلفظ بزقها خلفها.

الثاني: آ..ااه هكذا إذن!! أنا لا أحتاج حياتي طالما أنها تخص الجميع ولا تخصني أنا وحدي. أنا أحتاج إلى مشفى أموت فيه. إنه لأكثر موطئ يرغبه المرء كما أنا عليه من حداثة العمل والكد والاشتراك في شؤون الحياة العامة.. يا للكلمات: شؤون الحياة العامة، إنها لتبخِّرُ الحياة…

…. ثم أنك تعرف تمام المعرفة كم كنتُ حزيناً حينها! كيف لك إرغام شخص حزين! الحزين يشرد، الحزين ينسى، الحزين طفل. من يمكنه محاكمة طفل؟!! ماذا قلتَ: حلزونة، مثل حلزونة، مثل بصاق حلزونة؟!

الأول: كانت الشمس تغرب حينما وعدتني.

الثاني: ومعها، مع بطء غروبها الغريب تركتُ قلبي بين يديك. من قال: وسط مراكز الوجود هذه: مبغى ومعبد، ومشفى يموت المرء فيه؟ يا للمراكز!!

الأول: أنْ تستغل عاطفتي. وجداني وتعاطفي. هذا لا يجوز. وإن كنتَ طفلاً، وإن كنتَ في حزنك مثل طفل، ما شأني أنا؟ الحياة رجل لا يخلف وعده. هذا واضح وحاسم.

الثاني: ومع غياب الشمس مضى وعدي خلف حياتي!

الأول: بعد الغروب اكتمل عقدنا. وكم من نهار واضح تلا الليل، وأنت تتوارى وتتملص وتتلكأ عن عمد. لقد وعدتني، وينبغي أن تنفذ العقد الآن، الآن في ضوء النهار تحت عين الشمس الشاهدة على كل شيء.

الثاني: ومع غياب الشمس مضيت مثل وعدي، مثل حياتي. أنت تطلب ما لا يطلبه أحد من أحد. كيف لميت أن يفي بما صار الآن تركة عفنة تحت شمس النهار المستبدة.

الأول: لا تخلط الأمور. ليس للوعد عهدٌ آخر. لتكنْ شمسٌ، ليكنْ ليلٌ.

الثاني: وعدي لا يعود إليّ. أنا لم أعد مثلما كنت بالأمس. لا شيء يعود سوى الذكرى. أنت تعرف، الجميع يعرف. لــمَ يصمتون!! لا شيء يعود مثلما كان. هذا محض هراء.

الأول: لقد جعلتَ مني دمية كلماتك القاسية. وهي ظالمة لأنها عمياء، وهي قاسية لأنها بلا قلب. لقد جعلت مني أضحوكة على كل لسان. ماذا يسعني أن أطلب غير العقد! وإذا لم تفِ بوعدك، أي رجاء حينها أرجوك!

الثاني: هذا شأنك أنت وحدك. أنا لم أرغمك على شيء. أنت من قبلتَ الوعد. والوعد مضى مع مضي الشمس.

الأول: أنا ساقط، أنا ساقط.

الثاني: الساقط لا يعود.

الأول: حسناً، حسناً.. هكذا. إذنْ لا بأس، هيه هيييه ..سنرى!

الثاني: عقدٌ ووعدٌ. حياة. واحدة بواحدة. ثمة من يترقب ويتصيد. ثمة ما يحدث. أهي لعبة، محض لعبة؟ أهو رهان يائس؟ ولم فجأة نبدو مثل الدمى!! مثل قطع بلاستيكية!

الأول: لن تفي بوعدك أيتها القطعة البلاستيكية؟!

الثاني: ما تتوقع من بلاستيكة رخوة! فكرْ معي، تخيّلْ وراقب، وانتظرْ!!

الأول: لن أنتظر بعد الآن. سأستدعي الشرطة، فأنت شخص وضيع.

الثاني: حقاً حقاً؛ إنه لأمر وضيع! وإن قدوم الشرطة، وإن الإرغام الذي تستنجد به سيلوث هذا الأمر الوضيع. لكن ما العمل؟ لا شك، أنهم من ينبغي الاستنجاد بهم. على كل حال، أنا، أنا أحتاج إلى مشفى أموت فيه.

الأول: أخيراً، أدركت ما العمل؟

الثاني: دمية، دمية. دملة، دمامة، دماء.. ماء ماء.. ماااااءءءء آااه. أنا أحتاج إلى ماء بحجم العالم! أحتاج إلى مشفى أموت فيه: أتخيل سريري: هذه مخدتي، وهي نظيفة بيضاء؛ وثمة بالقرب منها نافذة، وعبرها- فيما أنا مستلق على ظهري- أرى قبة الكنيسة، رأس البرج أو الهرم أو الحياة، ثمة من يغطيني بلطف أخرس.. وأرى أيضاً ذرى أشجار الصنوبر- أهي حقاً أشجار صنوبر لها صمغ كالدموع؟- يا لنعيمي! ياه كم أنا محظوظ، كم أشعر بسعادة تغمر جسدي مثل ماء داخل فمي، مثل قبلة ما زال لها طعم على لساني!! آه عمتِ مساء يا أشجار الصنوبر، فلأمتْ بالربيع، سأكون محظوظاً لو متُّ بأمسية ربيع. على لون أخضر أحب أن أغمض عيني.كم أنا سعيد لأنني أردتُ أخيراً أن أغمض عيني!!

الأول: أنظرْ في وجهي. ما شأني أنا بما تشعر؟ ينبغي الاستعانة بالشرطة. إنه الحل الوحيد، وما عليّ سوى المضي في هكذا طريق. ثمة ما يدعى بـــِ بـــِـــ بـــــــِ بتسلط الأفكار الخبيثة، ستطلب طبيباً، وبعد ذلك سيقرر الطبيب أنك مصاب بتسلط الأفكار الخبيثة، وبذلك تنجو من الوفاء، تنجو من الشفاء. يا لخيبتي!! لكن، مع ذلك، رغم كل شيء… ما العمل، أجبني ما العمل ؟

*علي جازو – شاعر سوري مقيم في بيروت

    اقرأ أيضاً للكاتب:

شمس تحولت إلى عصفور

قراءة في ” يوميّات وقصائد ” علي جازو

اقرأ أيضاً:

“أرمي العصافير على شجرة العائلة” لرشا القاسم: تجلّيات العنْونة

الشرق معلبًا كطردٍ بريدي “من يوميات المنفى”

السلاح البيولوجي، أخر طرق الإرهابيين في تطوير الأسلحة

وزير الداخلية هورست زيهوفر يعتزم البدء في إعادة الأجانب المحظور دخولهم إلى ألمانيا