in

من قاعات الشرف إلى مقاعد الدراسة.. مسيرة حياة غير عادية

 

دينا أبو الحسن | صحافية سورية، محررة قسم المرأة في صحيفة أبواب

 

ترك انشقاق الدبلوماسية لمى أحمد اسكندر عن النظام السوري وهروبها إلى ألمانيا قبل أربع سنوات؛ أصداء واسعة، وحظي بتغطية إعلامية كثيفة، إلا أن السيدة التي وصلت لمنصب دبلوماسي رفيع؛ وجدت نفسها بعد أن استقرت مع عائلتها في مكان إقامتها الجديد أمام صعوبات حياتية ومهنية، حيث لم يعد العمل في مهنتها السابقة أمرًا واردًا. هذه الصعوبات شكلت فيما بعد خطوات مسيرة نجاح جاء نتيجة تصميم وعزم كبيرين.

القرار الشجاع الذي اتخذته بترك كل ما ألفته في حياتها؛ تبعته عدة قرارات أخرى، كان أهمها الانطلاق في حياة مهنية جديدة، والخطوة الأولى كانت في إتمام دورة الاندماج المفروضة والممولة من قبل إدارة الهجرة واللجوء والجوب سنتر حتى مستوى ب1 في اللغة الألمانية.

تقول لمى أحمد اسكندر: “بعد نجاحنا في هذا المستوى، وجدنا أنا وزوجي، أننا بحاجة إلى مستوى أعلى من تعلم اللغة، فبحثنا عن مكان يمول الدورات المتقدمة، وبالفعل سجلنا في مدرسة “يوروشوله” وحضرنا دورة لغة ذات تخصص مهني.” وكانت لمى قد تعرفت إلى زوجها زياد خلّة في كلية الاقتصاد حيث كانا يدرسان معًا.

“لم أعمل في مجال الاقتصاد من قبل، حيث التحقت بوزارة الخارجية فور تخرجي، ولكنني هنا عدت لدراسة الاقتصاد، وهذا جيد. الدورة التي أتممناها أهلتنا لامتحان ب2، ولكن لأن الامتحان يستغرق ثمان ساعات، ونظرًا لعدم إمكانية ترك أطفالنا (10 سنوات و6 سنوات) لوقت طويل، لم نستطع أن نقدم الامتحان معًا، فقدمه هو ونجح فيه” قالت لمى.

بعدها، أجرت لمى تدريبًا عمليًا لمدة شهرين في مكتب نائب في برلمان براندنبرغ هو ديرك هوماير، من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (سي دي أو). الانطباع الجيد الذي تركته أثناء عملها دفع النائب أن يطلب منها العمل معه كمستشارة في الشؤون السورية، وهو عمل طوعي غير مأجور.

بالتوازي مع دراستها وتدريبها العملي، حاولت لمى العمل مع بعض تجمّعات المعارضة السورية، لكنها وصلت إلى طريق مسدود. وعن هذا تقول: “عندما اتخذت قراري بمغادرة النظام السوري، تصالحت مع نفسي، وأرفض أي تسوية في هذه المصالحة.” بعد ذلك، أسست مع مجموعة من الدبلوماسيين المنشقين جمعية في مدينة هانوفر. وقد نظمت هذه الجمعية عدة أنشطة، منها محاضرات عن الاندماج باللغة الانكليزية، وورشة عمل حول الهوية السورية المأزومة، وكيف يجد السوري نفسه في مكان اللجوء.

 

العودة إلى مقاعد الدراسة

“بعدها تركت المنظمة، لأنني وزوجي تلقينا دعوة بعد إنهاء التدريب العملي للدراسة في جامعة بوتسدام ضمن برنامج دراسة تكميلية في إدارة الأعمال خاص بذوي الأصول المهاجرة. هذه الدراسة كانت مكثفة جدًا، حيث درسنا لمدة عام كامل كنا خلاله نخضع لامتحانين كل شهر، وبلغة اختصاصية صعبة. تطلب هذا تكريس كل وقتنا من 1/5/2016 حتى 30/4/2017، وأخذنا الموضوع بجدية تامة لأننا وجدنا فيه فرصتنا في بناء مستقبلنا على هذه الأرض الجديدة.” وتضيف، “في أثناء الدراسة، حصل زوجي على فرصة عمل مهمة في قسم الإدارة المالية في بلدية المنطقة التي نقيم فيها في ولاية براندنبرغ، مما تطلب منه ترك دراسته والتفرغ لعمله، فتابعت الدراسة وحدي.”

هذه الدراسة كانت بالنسبة إلى لمى بابًا فتح عدة أبواب، فالمقيم من أصول مهاجرة، والمنقطع عن الدراسة يستطيع من خلاله العودة لسوق العمل. الدراسة تضمنت مستوى ب2 وسي1 من اللغة المتخصصة، وتدريبًا عمليًا أجرته مع نفس الجامعة.

“أداؤك هو ما يفتح لك الأبواب في كل مكان، فقد حصلت أثناء الدراسة على علامة تامة في مادة الإدارة، مما دفع أستاذة المادة لترشيحي لحضور ورشة عمل في جامعة أخرى هي Potsdam Entrepreneurship Experience Lab مدتها 4 أيام، وهي غير مجانية، خلافًا لجامعة بوتسدام، حيث تبلغ تكلفة ورشة العمل هذه 3000 يورو، لكني حصلت عليها مجاناً مع ثلاثة طلاب آخرين من دورتي.

“كانت الورشة في اختصاص التفكير التصميمي Design Thinking، وهو أحدث ما توصل إليه علم الإدارة. قلت للأستاذة التي رشحتني للورشة، وهي مسؤولة قسم الإدارة الإبداعية وريادة الأعمال في جامعة بوتسدام، إني أحب العمل في الجامعة، وبالفعل، أجريت تدريبًا عمليًا في نفس القسم لمدة ثلاثة أشهر، وحصلت على شهادة الدراسة التكميلية في مجال إدارة الأعمال. الأساتذة في الجامعة لديهم علاقة مباشرة بسوق العمل، وهم يشددون دائمًا على أن أهم ما على المرء بناؤه هو العلاقات العامة مع سوق العمل، وإحدى المواد التي تفوقت فيها، وهي التجارة الداخلية، رشحتني للحصول على وظيفة.”

 

صورة زائفة عن المجتمع الألماني

أشد ما أثار إعجاب لمى في المجتمع الألماني، هو التكافل بين أفراده. تقول: “كل ما سمعناه عن المجتمع الغربي المتفكك كان كذبًا. التكافل الاجتماعي مقدس هنا، فالعلاقات الأسرية قوية وتشمل الجدين، وعلاقة الأطفال بأجدادهم ليست عاطفية فحسب، بل تربوية أيضًا، حيث يقوم الجدان برعاية أحفادهم والاهتمام بهم. أحد جيراننا المسنين قال لابني إن جده بعيد عنه، ولذا فهو سوف يكون جده، وطلب منه أن يناديه (أوبا)، أي جدّي. وهناك جمعيات تمكن الأسر من استعارة جدة للأطفال ليحصلوا على حنانها وخبرتها مجانًا. أرى أيضًا في مدرسة أولادي أن جميع الأطفال متساوون فلا نعرف الغني من الفقير، رغم عدم وجود لباس موحد، وهناك جمعيات كثيرة لتبادل الثياب والألعاب التي لم تعد الأسر تحتاجها. يمكنني القول إن المجتمع الألماني مجتمع تكافلي، وإننا كنا نحمل صورة زائفة عن المجتمع الأوروبي المتفكك.”

تدعو لمى الأهل إلى الاستفادة من فرص الرعاية الثقافية للأولاد، المتوفرة بشكل شبه مجاني، حيث يمكنهم التسجيل في كثير من الدورات التي تساعد على تطوير مواهبهم. “سجلنا ابنتي زينة في دورة بيانو، وسجلت معها لنتدرب لأني كنت أعزف البيانو في صغري. كما سجلتها في دورة صناعة خزف مقابل 4 يورو شهريًا تشمل تكلفة المواد، وفي دورة رسم مقابل بنفس التكلفة.”

من الدبلوماسية إلى الاقتصاد

تقول لمى إن عملها السابق في السلك الدبلوماسي قدم لها الكثير، وإن كانت لا تستطيع ممارسته حاليا. “استفدت من خبرة قوية في العلاقات العامة وتعلمت الكثير من السفر لكافة أنحاء العالم. عملي السابق أعطاني دون شك ذخيرة لحياتي”.

رغم ذلك، فهي مستعدة للبداية من بداية الطريق في سن التاسعة والثلاثين. “أريد العمل في مجال دراستي، وهو الاقتصاد، وما يستهويني منه بشكل خاص هو التسويق، ولكني كي أستطيع مزاولته لا بد لي من الوصول إلى أعلى مستوى في اللغة الألمانية، وهو سي2، وهذا ما أسعى إليه حاليًا. كما سجلت في جامعة هارفارد على الانترنت لدراسة ريادة الأعمال للاقتصادات الناشئة. هذا المجال جعلني أجد الطريق، وهو إيجاد الاقتصاد من العدم في بلدنا بعد الحرب.

تعتزم لمى متابعة دراستها العليا، ولكن أهم ما تعلمته في ألمانيا لم يكن أكاديميًا فحسب. تقول: “أتمنى أن يعرف الجيل الذي تعلم هنا قيمة الإنسان، ويعمل عند عودته إلى سوريا على نشر هذه الثقافة. نستطيع تأهيل الشبان والشابات ليحملوا القيم الإنسانية وحقوق الإنسان والمرأة والحريات، وهذه لوحدها ثروة بشرية هائلة.”

انضمّت لمى أحمد اسكندر إلى “اللوبي النسوي السوري” الذي يهدف إلى تمكين المرأة سياسيًا، وهي ترى من خلال ما لمسته وعاشته أن المرحلة القادمة ستكون بيد النساء، فداخل كل لاجئة ثورة، وعلى أكتافهن ستقوم ثورة جديدة، فالبذرة موجودة وقوية.

هل يمكن أن تنسى دمشق؟

قوات التحالف تنتقد بشدّة تقرير العفو الدولية عن معركة الموصل