in , ,

كورال حنين.. الغناء كفعل مقاومة للموت

كورال حنين.
حوار: دينا أبو الحسن – برلين

 

“بغنائنا نتحدى الموت واللجوء والألم، فحيثما تجتمع السوريات يولد الأمل والفرح.”

هكذا تختار السيدة رجاء بنوت، مؤسسة ملتقى حنين الثقافي، التعريف عن مشروعها، الذي بدأت فكرته في سوريا عام 2000، حيث كانت مؤسسته متفرغة للعمل المدني، وبدأت بتشكيل مجموعات مع النساء للقيام بأنشطة متنوعة كاليوغا والقراءة والمشاركة في فعاليات ثقافية مختلفة، بحيث استطاعت تشكيل مجموعة مهتمة بمتابعة تلك الأنشطة.  

 

تقول بنوت: “منذ عام 2000 وحتى 2006، حاولت تسجيل الجمعية في سوريا، كجمعية ذات أهداف ثقافية تحاول دعوة المهتمين لمتابعة الفعاليات الثقافية، ولم ننجح في ذلك بسبب البيروقراطية والتسويف من الجهات الرسمية.”

في عام 2006 تمكنت بنوت من تسجيل جمعيتها تحت اسم “جمعية نهضة الفن”، وذلك لأنها كانت ترى أن هناك انحطاطًا في الحركة الفنية بسبب بروز أصوات ذات طابع سوقي متل “علي الديك” تحصل على الشهرة والملايين من حفلاتها، في حين لا يجد أصحاب الأصوات المهمة مثل “لبانة القنطار” وغيرها من خريجي المعهد العالي للموسيقا ما يكفي حاجاتهم اليومية.

كانت الجمعية تشجع خريجي المعهد العالي للموسيقا، فتعقد لقاءات شهرية للموسيقيين والمغنين للتعريف بأنشطتهم، واستطاعت القيام بعدة فعاليات مهمة، وفي هذا الوقت فكرت بنوت في تنظيم فعاليات موسيقية، وبشكل أساسي إنشاء كورال، وتم التواصل مع حسام الدين بريمو، وهو من أهم مدربي الكورال في سوريا، لتدريب “كورال النهضة”.

وتروي بنوت قصة تعتبرها أفضل تقدير حصلت عليه، حيث اتصلت بها سيدة وقالت لها إن حماتها كانت تنكد عليها كل يوم، ولكنها منذ التحاقها بالكورال أصبحت تستيقظ وهي تغني، عوضًا عن افتعال المشاكل.

وصل عدد المشاركين في الكورال إلى 66 شخصًا، كان اجتماعهم ومشاركتهم في الغناء يشكل عاملاً إيجابيًا في حياتهم. ولكن بنوت غادرت سوريا عام 2011، واستمر الكورال حتى 2015 حيث انتهت أنشطته بسبب غياب وسفر أغلب أعضائه.

بعد وصولها إلى دبي عام 2011، حيث أسست بنوت مجموعة ثقافية للسوريين، وكان أعضاء المجموعة يلتقون بشكل منتظم لأهداف ثقافية، كما عملت في تأسيس تنظيمات سياسية ديمقراطية، إلا أن الوضع برأيها لم يكن ناضجًا لهذا العمل، مما أدى إلى فشل هذه المشاريع، وهي “الكتلة الوطنية الجامعة” و”اتحاد الديمقراطيين السوريين”. تقول: “لم نكن مستعدين، ولم يكن الظرف يتحمل، وقد تشكلت مئات التشكيلات أيامها، ولم يستمر أحدها.”

بعدها عادت بنوت إلى العمل المدني، حيث كانت قد وصلت إلى مدينة غازي عنتاب التركية، ومنها انطلقت فكرة ملتقى حنين الثقافي، لتمكين النساء من الناحية الثقافية عبر الغناء والمشاركة الفنية.

تقول: “كان من ضمن فعالياتنا ما أسميناه سبت التبولة، حيث كنا نلتقي كل سبت، ومن خلال هذه النشاطات أقمنا 15 ورشة عمل دون أي تمويل، وبمساعدة وتطوع كثيرين قدموا خبراتهم للمهتمات. أنا مثلاً أقمت ورشتيّ عمل حول تشكيل المنظمات لأن هذا هو مجال خبرتي، وهناك محامية تحدثت عن المرأة والقانون السوري، واستعنا بأصدقاء من خارج الملتقى أيضًا أقاموا ورشات تدريبية.”

وتتابع: “في شباط 2015 تشكل كورال حنين، وكانت الفكرة من الكورال الغناء التراثي في سوريا، حيث اخترنا من كل محافظة أغنية، بدءا من درعا وانتهاء بدير الزور، كما غنينا بالسرياني والكردي والتركماني. وصل عدد المشاركات في المراحل المختلفة إلى 80 سيدة، وما زال المشروع مستمرًا، إلا أن تطوره توقف عند هذا الحد.”

 

تطلق بنوت على السيدات المشاركات في الكورال اسم “الحنينيات”، وتحمل المشاركات الاسم بمحبة وفخر.

في صيف 2015 ذهبت بنوت إلى سويسرا وشكلت مجموعة نواة لحنين، ولكنها لم تستمر كثيرًا لغياب الحافز والمتابعة. تقول: “بعد وصولي إلى ألمانيا في آب 2016، كان عدد كبير من المشاركات في كورال غازي عنتاب قد وصل إلى أوروبا، ومنهن 10 في ألمانيا. دعوتهن للاجتماع عندي في البيت. حضرن من كافة المدن، وأقمن في ضيافتي عدة أيام تحدثنا خلالها كثيرًا”.

وتتابع: “سألتهن عن رأيهن في تشكيل الكورال مجددًا في ألمانيا، فتحمسن للفكرة، وفي تلك الأثناء، التقيت بالموسيقي وسيم مقداد وكنت أعرفه في غازي عنتاب، وأخبرته عن رغبتي في استئناف أنشطة الكورال، فوافق على مشاركتنا وتدريبنا رغم أن العمل تطوعي بالكامل. أول ما فعلناه كان الذهاب إلى بون والاجتماع مع الحنينيات القديمات، ثم تقديم أولى حفلاتنا في فعالية اليوم السوري في بون.”

بعد أن قررت البقاء في برلين، التقت بنوت بالسيدة نهلة الشناعة، وأخبرتها أن منظمة كامبوس كوزموبوليس تستطيع توفير مكان يتدربن فيه، “بالفعل سرع هذا انطلاقنا، الأمر الذي يشكرون عليه، واستطعت تأسيس مجموعة حنين برلين، حيث كنا نتدرب في مقر المنظمة” تقول بنوت.

وتضيف: “فتح حنين المجال للناس لتتعرف إلى بعضها، وفتح أبواب الصداقات والعمل الجماعي، فكل من شاركت في حنين لم تتركه إلا لظروف قاهرة، حيث كان اللقاء يشكل جوًا اجتماعيًا مهمًا ويعطي إحساسًا بالانتماء والراحة النفسية”.

في ظل غياب الأهل والأقارب، شكلت الصداقات التي كونتها الحنينيات مظلة محبة، وفقاً لبنوت، التي تقول: “نحن ندعم بعضنا بشكل دائم، خاصة في ظل غياب العائلات والأقارب. في غازي عنتاب تزوجت إبنة إحدى الحنينيات فذهبنا وشاركناها وكنا لها الأهل. زغردنا لها وألبسناها في حفل زفافها.”

أما أكثر المواقف تأثيرًا، فكان عندما قررت مجموعة كبيرة من سيدات حنين المخاطرة بالسفر عبر البحر من تركيا إلى أوروبا، وبالفعل اجتمعن، وركبن قاربًا مطاطيًا عبر بحر آيجة إلى اليونان. “في هذه الساعات العصيبة، وبينما نحن بانتظار وصولهن، اجتمعنا وأشعلنا الشموع لهن ولم ننم حتى اطمئنينا أنهن وصلن بالسلامة. وأخبرننا بعد وصولهن أنهن كن على متن القارب أيضًا يغنين أغاني حنين لينسين الخوف والتوتر. حتى في رحلة الموت كان حنين حاضرًا بقوة.”

وصلت السيدات بالسلامة، وتابعت بعضهن المشاركة مع مجموعة حنين في ألمانيا، رغم أن المجموعة لم تقم حتى الآن حفلاً كاملاً، بل تشارك في بعض الأمسيات والمشاريع، حيث لم تتدرب بعد بشكل كافٍ.

تقول بنوت: “في برلين، كان الظهور الأول للكورال في حفل أقيم في دار للمسنين بناء على دعوة من مدير الدار، وذلك بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة. غنينا للمسنين والكادر الطبي وعرفناهم إلى الثقافة السورية، وهنأناهم بالعيد بلغة لم يكونوا ليسمعوها لولا هذه المشاركة. أحببت هذا الحفل، رغم أن الجو كان مؤلمًا، والإضاءة خافتة، وقد سرني كثيرًا الانطباع الإيجابي الذي خلفته هذه المشاركة.”

تلت ذلك مشاركة أخرى قرب كنيسة قيصر فيلهلم التذكارية، في موقع الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له برلين في كانون الأول، حيث غنت الحنينيات بعض الأغاني السورية التراثية، ووضعن إكليلاً من الزهور ولوحة باسم حنين، وأضأن الشموع في الموقع التذكاري لضحايا الهجوم. تقول بنوت: “تحدينا الموت والإرهاب والحرب في سوريا وقمنا بالتضامن. نحن نموت ولكننا نغني من قلب الموت والحرب والألم”.

وتتابع: “نعمل الآن على تشكيل مجموعات في دورتموند وبرشيم وهولندا، والعودة إلى النشاط في مجموعة سويسرا. هذه الأنشطة تتطلب مجهودًا كبيرًا وتمويلاً، ولا يمكن تركها دون إشراف ومتابعة. هذه المجموعات مرتبطة ببعضها، وهي جاهزة ومدربة بشكل جيد، وقريبًا سنعود إلى فكرة الملتقى الرئيسية وهي حفظ التراث والتمكين الفكري والسياسي، على أمل العودة والمساهمة في بناء سوريا الجديدة الديمقراطية.

هذه هي الفكرة المستقبلية، والفكرة الآنية هي أن الناس تلتقي وهذا اللقاء يخفف آلامها، وفي ذات الوقت، فنحن نساهم في حفظ التراث المعرض للخطر، خاصة مع مشاركة الصبايا والشابات معنا، ويسعدني كثيرًا أن أرى لديهن هذه الرغبة”.

وتختتم السيدة بنوت حديثها إلى أبواب: “سوف نتابع الغناء حتى نعود إلى سوريا، ونشكل مجموعات في كافة دول الاغتراب واللجوء، فربما نجتمع يومًا ما في الأمويين ونغني، أو في الأمم المتحدة، أو في مكان ما.. نحن أحياء ونغني، ولن نسمح لهم بقتلنا مرتين. خسرنا كثيرًا، وسنكمل.”

لماذا لا نستطيع بناء الواقع وفق أفكارنا الحداثوية المعلنة؟

ما هو ذاك الاندماج؟