in , ,

الخطوط الحمراء في مجتمعنا السوري، ثوابت أم متغيرات تابعة للبيئة والمجتمع؟

العمل للفنان سيد عبد الرسول

زينة أرمنازي – خلال بضع سنوات من الاغتراب طرأ تحولٌ كبير في المفاهيم لدى السوريين ولدى النساء خاصةً، سلباً أو إيجاباً، المهم أنه حدث بالفعل. ونتج عن هذا تغيير كبير في قناعات ومعايير اجتماعية عدة، كانت تقيّد بعض الأشخاص في إظهار هويتهم الاجتماعية.

فما هي تلك القناعات الجديدة والتغييرات الطارئة على تفكير المرأة السورية ؟ وكيف أثرت في شخصيتها خلال وجودها في ألمانيا؟ سؤال طُرِح على مجموعةٍ مختلفةِ الأعمار والانتماءات من النساء السوريات اللواتي أجمعن على أن تغييراً كبيراً قد حصل.

العمل والتعليم:

على الرغم من أن التعليم والعمل في سورية كان متاحاً للسوريات، إلا أن هناك حالات منعت المرأة من إكمال طريقها، فكانت متابعة الدراسة غير متاحةٍ لبعض فئات المجتمع، في حين اعتُبرت الدراسة مجرد “بريستيج” لدى فئاتٍ أخرى، كانت تفضّل أن تكون “البنت متعلمة” ولكن في الواقع لا أفق أمامها بسبب غياب الفرص الحقيقة لإثبات الذات والنجاح أمام السوريين كلهم نساءً أم رجالاً. ورأت المشاركات أن المساواة واحترام قدرات المرأة أعطتهنّ حافزاً أكبر في ألمانيا، للانطلاق في أحلامهن والسعي لتحقيقها. تقول سمر عقيل: “لطالما أيقنت أن الحياة ليست زواجاً وأولاداً وطبخاً وتنظيفاً فحسب، وبصراحة لم أعتقد أني بعد زواجي وإنجابي سأستطيع الالتفات لنفسي، لأتعلم وأعمل، لكنني بدأت أصدق أنني أستطيع تحقيق أحلامي”.

أما ريماس التناوي فتقول: ”الوقت والتعليم هما الأهم هنا للاندماج في المجتمع، ولكنكِ هنا لا تشعرين بأنك بعد تخرجك ستعلقين شهادتك، بل توجد فرصة لتعملي لنفسك وتحققي ذاتك.”

 مناخ الحرية وتقبل الآخر:

احترام الخصوصية في ألمانيا منح النساء مساحتهن الخاصة، باتخاذ قرارتهن الشخصية بكامل إرادتهن، دون تأثير الضغط الاجتماعي، كالعنوسة والطلاق، اللذين لم يعودا هاجساً يخيف المرأة من النبذ الاجتماعي، إضافة إلى أن القوانين ودعم منظمات المجتمع المدني، دعّمت الثقة بالنفس عند المرأة في حالات الطلاق. وتوضح م. ع. حالتها “أنا شابة في الخامسة والعشرين من عمري، متزوجة منذ سبع سنوات ولدي طفلان، وُلِدت في عائلة محافظة، وكذلك زوجي، عشت حياتي كلها “أنفّذ دون اعتراض”، عندما أتيت إلى هنا تغيّر كل شيء في نظري، وقررت كسر صمتي والعمل بحسب ما تمليه عليّ قناعتي، وقررت الانفصال عن زوجي، والاعتماد على نفسي في تربية أطفالي، وكانت هذه كارثة حقيقية بالنسبة إلى عائلتي. أستطيع القول الآن إنني إنسانة مختلفة كلياً، وأني تحولت من امرأة ضعيفة إلى أخرى قوية وناجحة، فأنا أدرس الآن وأخطط لمستقبلي، ومقتنعة بما أنا عليه، وتغيرت لدي بعض القناعات التي كانت خطاً أحمر ولا أستطيع التفكير فيها كالدين والحجاب مثلاً، أصبحت أراه من زواية مختلفة، بأننا نمارسه من قلبنا لرب العالمين فحسب، وليس كما يريد الناس. ولكن للأسف لا املك الجرأة حتى اليوم على مواجهة عائلتي لانني متأكدة بأنهم لن يفهموني”.

ساعدت أيضاً ثقافة الحريات العامة في احترام المرأة السورية لخصوصياتها واحترام تصرفاتها ومظهرها الخارجي ومن ثَمّ تقبلها هي أيضاً للآخر، تقول تناوي “هنا أستطيع ركوب الدراجة الهوائية من دون أن أخاف تعليقات المجتمع و”تلطيشات” الشباب المزعجة”. وأضافت ماسة المحياني “كان لدي خطوط حمراء كالمصافحة والحديث إلى شخص غريب، ولكنني أفعل هذا هنا براحة تامة دون الاكتراث لشئ، فالأمر أقل من عادي، ولا أشعر بالقلق من أنّ من أتحدث إليه سيفهمني بطريقة خاطئة”. تضيف لارا (مدرسة رياضيات)  “طريقة السلام تغيرت، هنا أستطيع أن أسلّم على صديق ألماني بالعناق، بينما لا أستطيع فعل ذلك مع الرجل العربي، وما زلت أتعامل معه كما كنت في سورية”. و أبدت يمنى الدمشقي رأيها “ أصبحت أتقبل الاشياء كلها،حتى لو كنت غير مقتنعة بها، بمعنى آخر أصبحت أؤمن بالحرية وأمارسها، كتقبلي لمظاهر كنت أرفضها، كالفتاة التي تضع حلقاً في فمها أو أنفها، أصبحت أرى الآخرين ببساطة أحراراً بما يفعلون”.  أما غفران الدسوقي فتقول  “أحب حياتي هنا، ولا أفكر بالرجوع إلى بلد عربي، أنا محجبة وأرتدي مانطو طويل، ومع ذلك لم يضايقني أحد ممن حولي، جمعيهم يعاملونني باحترام”.

الاستقلالية:

الاستقلالية الشخصية حالة غريبة على المرأة السورية، وكان يصعب تحقيقها في سورية، بل لم تكن مطروحةً لولا الحرب واللجوء، قليلاتٌ مثلاً تمكنّ من الاستقلال الشخصي عن العائلة دون زواج، إلا أن الكثيرات اضطررن في ألمانيا للسكن بعيداً عن الأهل، كما أجبرت نساء أخريات على ترك أزواجهن لفترات قد تطول. هذا الأمر الجديد على العائلة السورية بات اليوم عادياً ومقبولاً من المجتمع. وبالتأكيد عانى البعض في المرحلة الأولى من تلك التجربة، إلا أنها عرّفتهن على أهمية استقلالهن، تقول زهراء سقعان “ لم أكن أتوقع العيش بعيداً عن أسرتي وصديقاتي، حتى اكتشفت أنني أستطيع إنجاز الكثير بنفسي، فكوني وحيدة يساعدني لأحقق أعمالاً كبيرة في وقت سريع”.

الزواج والعلاقات الشخصية:

تحولات أخرى طرأت على أمور تتعلق بالزواج واختيارالشريك، تقول جودي(33 عاماً) “أتيت إلى ألمانيا منذ أكثر من ست سنوات للدراسة، تغيرت فيّ اشياء كثيرة، كنت أعتقد أنني لا يمكن أن أتفاهم مع شاب غير سوري، أما الآن فشريك حياتي هو شاب ألماني، وهذه خطوة ساعدتني أكثر على الاقتراب من المجتمع الألماني بعد هذه السنين كلها، بعد ما كنت قد حاصرت نفسي بدائرة معارف استثنيت منها الألمان. حالياً أشعر بأنني جزء من عائلة صديقي -وهذا صحي وملائم لي- وبأن علاقاتي السابقة مع شباب مبتورين من عائلاتهم في سورية كانت مرهقة.“

أدى الاطلاع على مكانة المرأة في ألمانيا أيضاً إلى بعض التغيرات في طريقة تعامل المرأة السورية مع زوجها في المنزل أو مع عائلتها، تقول إيلّا ( ٢٣ عاماً) “كان زوجي لا يحضر لنفسه كأس ماء، كنت أخدمه في كل شيء، الآن تغير معي ١٨٠ درجة، وأصبح يساعدني في كل شيء، حتى الطبخ أصبح بارعاً به”، تغيرت طريقة تربية الأطفال والعلاقة معهم. وتقول رشا حول هذا الموضوع “تغيرت معاملتي لابني ذي الخمس سنوات، تعلمت كيف أسايره وأنزل إلى مستوى تفكيره، أحترم رغباته، بعدما كنت  أمارس عليه سلطة أبوية وأفرض عليه رأيي في مواضيع بسيطة وتافهة لأنني أكبر منه فحسب، بدأت في ذلك بعدما رأيت كيف يعلمون الأطفال الاستقلال برأيهم في الروضة وبدأت أنتبه إلى نفسي، ومازلت أتدرب على التحدث معه بهدوء وإرشاده دون صراخ أو إهانة، هنا أستطيع التصرف هكذا بعيداً عن الضغوطات العائلية، وأشعر بالأسف حين أرى عائلات لا تستطيع تفهّم أطفالها، أويعاملونهم بالضرب”.

ثوابت سابقة صارت في طور النقاش

خطوط حمراء تحولت إلى خضراء في تفكير المجتمع السوري، وراحت مناقشات تشق طريقها بين السوريين، بعضها لم يكن يمكن التحدث فيها، أو التلميح عنها لرفضها قطعياً من المجتمع، لكنها أصبحت مطروقة ومقبولة من بعضهم، كمفهوم المثلية الجنسية الذي كان من أخطر الاحاديث في سورية وأعقدها، وزواج المرأة من رجل من دين آخر، والعلاقات خارج إطار الزواج. تقول سارة (طالبة) “تغير تفكيري تجاه كل شيء، أهمها نظرتي إلى الحرية، وإلى العلاقات، كلنا بشر بغض النظر عن الجنسية، الدين أو اللون، اهتممت بالنسوية وآمنت بالفيمينسم وفكرة المساواة، الاتجاه أو الميول الجنسية أصبحت غير مهمة سواء هومو أو هيترو أو مزدوج، تقبلت الحب بأي شكل، وأصبحت أحترم الأديان جميعها باختلافاتها وتعددها، فالله محبة، واحترم اللادينيين وكذلك احترم الرأي المغاير، المعتقدات والاختلاف“

وحتى الثوابت السياسية ومفاهيم الوطن والعدو وغيرها، تغيرت أيضاً، تقول حنين داوود “نظرتي إلى الوطن صارت أوسع، فلم يعد مجرد مكانٍ خلقت فيه، صار الوطن هو كل مكان أستطيع فيه أن أحلم بحرية، وأنا أعلم بأن حلمي سيتحقق فعلاً، ولم يعد انتمائي ضيق إلى دين، أو وطن، أو فكرة محددة. صار انتمائي إلى البشرية والكون كله“

سلوكيات كثيرة كانت تعدّ شائكة، وقد تودي إلى القتل تحت حماية القانون وبمسمى جريمة الشرف، أو الخوف من الفضيحة، حالات أصبحنا نراها اليوم على الملأ أمام أعيننا، يتقبلها البعض ويرفضها الآخر، إلا أنها لم تعد في تلك الزواية المعتمة أو تحت خطر الموت عند الاقتراب منها.

مواضيع ذات صلة

اللاجئات والألمانيات… معرفة الذات عن طريق الآخر

كيف يمكن للمرأة المغتربة أن تثبت ذاتها؟

كتابات النساء: في تدوير زوايا العالم

“معركة الحجاب” مرة أخرى حرية شخصية أم وسيلة إضافية للوصاية على النساء؟

المشي في حقل الألغام.. العمل النسائي المدني في سوريا

“العلمانية والدين في العالم العربي” في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لايبتزغ

Wie sich die Küchen doch ähneln