in

وهناك أحمد

اللوحة للفنان عمرو فهد

المعتصم خلف.

إلى الآن مازلت أذكر أحمد الذي كان مقتنعًا أنهُ يجب أن ينام في وسط الغرفة في ليالي القصف، وكلما أخبرتهُ أن الوسط هو الجزء الأكثر عرضة للموت، كان يستشهد بالرواية التي كان ينام بطلها في وسط الغرفة في ليالي القصف لتجنب الموت…

حاولت أن أعرف عنوان الرواية وسألتهُ أكثر من مرة عن كاتبها أو عدد صفحاتها.. كان يقول “هي الكتب بتقتل الشي الحلو جواتك لا تقرأها…” قمة ما عرفتهُ عن هذا العمل أنهُ فرنسي.. ولا أدري هل قال لي هذه المعلومة بجدية أو كرأس خيط للبحث أو ليرتاح من تكرار السؤال؟

وكنتُ أتساءل دائمًا كيف يعرض نفسهُ لكل هذا الخطر بسبب جملة في رواية، أو بسبب عادة لبطل رواية قرر كاتبها أن يخاطر بشخوصها.. ومن هنا بدأ إعجابي بأحمد.

كان يخاف أن يصبح ضريرًا، ولا أدري سبب هذا الخوف مع أن نظره كان جيدًا ولم يرتدِ يومًا نظارة طبية، كان عندما تنقطع الكهرباء لا يضيء شيئًا ولا يتحرك من مكانه، وكلما طالت ساعات التقنين كان يقلق، وينظر نحو أي جزء يحافظ على ضوئه مثل السماء أو بيوت الجيران ليتأكد من بصره.

هو يعلم أنهُ لن يصبح ضريرًا فجأة، ولكن هو ذاته يعلم أيضًا أن هوسه صادق، أحيانًا كان يدافع عن هوسه هذا ليتحدث عن فلسفته بالعيون “شي مرة اطلعت لجواتك.. صدقني هالعيون مو لنتطلع لبرا، هالعيون لنشوف داخلنا المريض.. هيك بس فينا نفهم العالم”. ولا أعلم لماذا كنتُ أخاف منهُ، كلما اشتد الحصار كان يدّعي أن هاتفهُ يرن ويتحدث مع صديقتهِ القديمة، ويختار موعد اللقاء والمكان، وكان يطلب منها ألّا تذهب لوحدها إلى مسرح “الحمرا” وألا تضحك كلما قال لها بالفصحى “أغلى الهدايا الآن فنجان قهوة وأرخصها قافلة المساعدات”، مع أن صديقتهُ ماتت منذ عام ونصف بقصف على منطقة “خان الشيح”.

كنتُ كلما وصلت إلى عتبة بيتهِ وسمعت صوت أطباقٍ تتحطم، أعرف أن أحمد لا تعالجهُ أساليبه في الشفاء من حالة القلق والتفكير التي تسيطر عليه. كان يريد ذاكرة مؤقتة تسرقه وتعيده إلى الحياة ليبدأ من جديد. وكنتُ أعود أدراجي في لحظتها لأنهُ يصبح أخطر من القصف والمحاصر والحصار.

وكان غالبًا ما يسترسل في الكلام بعد هذه الحالة. كان يقسم بشفة ترتجف كيف كان في بداية شبابه ينتظر أن تعطيه أمه المال لشراء الخبز، ليقوم بسرقته والهرب بهِ إلى لبنان، ليلتحق بالفئات الفدائية الموجودة هناك، وكان يبرّر تصرفهُ أن أمهُ كانت تعرف أنهُ سيهرب، فبعد غيابه لساعتين دون عودة كانت تتأكد أنهُ أصبح في لبنان وسيعود بعد أشهر.

أحمد الذي لا أذكر لقبهُ، كان لا يحارب ولا يصلي، كل ما أعرفهُ أنهُ كان يكتب نصوصًا لا يقوم بنشرها، ليس لأنها سيئة بل لأن من هم مثل أحمد يكتبون لأن الكتابة تطلب منهم ذلك، فهم يكتبون لأنفسهم فقط. كانت نصوصه حزينة بهدوء، وتزحف حول القارئ بأيدٍ تلوح لننقذها من خوفها المتوتر، الذي كان يكبر كلما رفض أحمد الخروج من منزله، كان يقول “طلعنا من كتير بلاد وفي بوش ستي ألف هجرة ومكان خليني أنا أقطع سلسلة هالهجرات”.

لقد كان يتمسك بالأشياء بعيونه، وترى بنظرته أيادٍ تمتد لتلمس كل التفاصيل. مثلاً لا يقشر أثر الدهان المنتفخ على جدرانه ولا يقبل أن يقشرها أحد غيره كأنه يمسك بيدها في ليالي القصف ليكسر وحدة ضرورية في حياته، ولا يمكنك إلا أن تطيع شخصًا كأحمد لأنهُ لا يتصنع شيئًا بل كان حقيقيًا يحكي عن تفاصيله بجدية كاملة، ويروي عن كتّاب وكتب لم أسمع بهم أبدًا، وكأن لهُ كتّابهُ الذين يكتبون من أجله فقط، وكأن لهُ رواياته التي يجب أن يصدقها حتى لو عرضتهُ للخطر، كان مهووسًا بكل ما يقرأ وقلقًا من شيء ما غامض، يرشد الماء في جوف الصخور والجبال التي في داخله.

وصدقوني حتى الآن لا أعلم هل رواية أحمد حقًا موجودة، أم أن أحمد كان يريد أن يواجه هوس الموت بطريقة سرية، وأنهُ كان يخبرني بهذه المعلومة هربًا من سؤال “لماذا تنام في الوسط”؟

وصدقوني ما أعلمهُ جيدًا الآن أن أحمد مقطوعة أخباره منذ أعوام…

ولعلّه حي في مكان ما

ولعله عالق في وسط إحدى الغرف

ولعلهُ أصبح هو الراوية وصاحبها.

 

مواضيع ذات صلة

دعوة لعدم اللقاء

الرسالة الأخيرة من إزمير

ألمانيا: تونسي ادّعى أنه لاجئ سوري ثم اعتقل لشبهة بالإرهاب

لاجئ سوري ينال الجائزة الأوروبية للغات عن مبادرة لتعليم اللغة الدنماركية