in ,

بدون لغتي، أنا كائن ميت!

اللوحة للفنان وليد المصري

خضر الآغا*

جزء من نص طويل نشر بالألمانية بعنوان:  Vom Schriftsteller zum Flüchtling

في إحدى المقابلات الصحفية مع إحدى وسائل الإعلام الألمانية عرّفني الصحفي بأنني شاعر وكاتب سوري لاجئ لاجئ؟! قلت له: “أنا لست لاجئاً، لي أم في سوريا، وأخوة وأخوات وأصدقاء، لي بلد، لي بيت هناك، لي كتب كثيرة، كثيرة جداً، ولي لغة هناك… وسأعود”.

وعلى الرغم من كل تلك المكابدة إلا أنني لم أستطع تعريف اللجوء تعريفاً حقيقياً إلا عندما غادرت بيت هاينريش بول، حيث استُضفت ككاتب زائر، إلى مدينة ألمانية أخرى وليس إلى سوريا! في بيت هاينريش بول كنت صاحب بيت، ضيفاً مرحباً به، كاتباً. حين غادرته بدأت حياة أخرى مختلفة في “لوبيك” المدينة الساحرة، وتحوّلت، خلال يوم واحد، من صاحب بيت وكاتب، إلى لاجئ!

في “لوبيك” كنت وحيداً، وحيداً على نحو صفيق، ومن شدة وحدتي كنت أسمع صوت دمي في الأوردة. كنت أمشي مثل أمّيِّ لا يعرف القراءة والكتابة، أنا الذي قرأت (كل) الكتب. في “لوبيك” وقفت وألمانيا وجهاً لوجه، كما لو أننا مصارعين على حلبة. وراحت تهزمني المرة تلو الأخرى، بدت قوية جداً وأنا ضعيف، بدت متماسكة جداً وأنا متفكك، بدت صلبة جداً وأنا هشّ… إذ أن لغتها قوية جداً وأنا بلا لغة!

بدا اللاجئ الذي فيّ يكبر على نحو متسارع حتى صار عملاقاً وابتلعني كوحش، ابتلعني حتى لم أعد أرى نفسي، ولم يعد يراني الآخرون. كنت لاجئاً فقط، مجرد لاجئ.

كنت أفسر الأشياء باللغة، كنت أفسّر الحياة باللغة، وباللغة كنت أفسّر الأفكار والمفاهيم والتاريخ والروح. في كتاب لي عن الشعر السوري اعتبرت الشعر لغة تقول. انطلقت من اللغة لمعرفة الشعر وتعريفه. وفي كتاب آخر تتبّعت أصوات الإنسان الأولى، لغته الأولى؛ اللغة التي أسّست وجوده، وكانت عبارة هايدغر: “اللغة بيت الوجود” بمثابة تعويذة تمدّني بقوة التفسير. أمضيت نصف حياتي بالتفكير حول اللغة وفيها.

جاء في العهد القديم أن قوة شمشون الجبار تكمن في شَعره، وعندما قصّوا شَعره قُتل. اللغة هي شَعر الكائن، قوّته ووجوده. الكائن بلا لغة كائن ميت . لطالما تباهيت بهذا الشَّعر الذي أملكه، هذه اللغة… في ألمانيا قُصّ شَعري، فبدوت مثل ميت! بدا أن كل الكتب التي قرأتها، كتبتها، شاركت بتأليفها، وقدمتها وحررتها لا معنى لها ولا قيمة. يقول أحد الكتاب العرب القدامى: “تكلّمْ، فإن المرء مخبوء في طيات لسانه“. فكيف أتكلم، كيف أكشف عن نفسي، وأنا بلا لسان؟!

أستعيد صورتي في سوريا جالساً بين كتبي الكثيرة، أمام طاولة الكتابة، أتناول كتاباً ثم أعيده إلى مكانه في المكتبة، أتناول كتباً أخرى وأضعها أمامي على الطاولة، كنت كمن يتحسّس وجوده ويلمس جسده ليتأكد أنه هو نفسه. أقرأ بثقة، وأكتب بثقة. أحاور الكتب والكتّاب المرصوفين أمامي في المكتبة وعلى الطاولة وفي المطبخ وعلى الشرفة، حتى على الشرفة أضع الكتب والكتّاب. أحاورهم بصوت عالٍ ليظن الجيران أنني ممسوس. أنا فعلاً ممسوس بالكتب والكتابة والأفكار.

جئت إلى هنا بلا كتبي وبلا كتّابي، لا دليل على وجودي، لا دليل لدي أنني أنا نفسي. لا كتب أتحسسها، ولا كتّاب على رفوف المكتبة أحاورهم. أنا هنا مجرد كائن يستعيد صورته هناك. أبدو مثل مشطور؛ نصف يصيح بأعلى صوته: أريد بيتي، أهلي، كتبي وكتّابي، ونصف صامت أخرس لا يستطيع الصراخ ولا قبول الواقع الجديد، وليس قادراً على إنشاء واقع ملائم. أجلس على طاولة الكتابة بلا كتابة، غير مؤمن بالسّير التي أعرفها عن كتّاب منفيين أو مهاجرين ظلوا في أمكنة هجرتهم ومنافيهم فترة طويلة بلا كتابة، ثم عادوا إليها من جديد. أنا لا أصدقهم.

للكاتب السوري قضية؛ الشعب السوري الذي يفنى، فإما أن يعمل لقضيته أو يصمت للأبد. لا حلول وسطى لدي، لا أقتنع بذلك. فكرة عزل الكاتب عن الشأن العام والسياسي هي فكرة سياسية استبدادية، روّج لها بعض المثقفين الذين كانوا يعيشون في أبراج عالية، لا هم يرون الناس ولا الناس يرونهم. “توماس مان” خلال هجرته إلى أمريكا كان يتوجه إلى الشعب الألماني عبر الراديو، ويحذّر من الآثار المدمرة للحكم النازي. لم يقل إنه لا يتدخل في الشأن العام، ولم يعتبر الحرب فعلاً مبنياً للمجهول، بل اتهم الحكم النازي بلا مواربة وناضل ضده. كذلك فعل الكثيرون ممن نعتبرهم أمثلة تحتذى: حنا آرندت، هاينريش بول، برتولد بريشت، فالتر بينيامين، وغيرهم الكثير.

أنا الآن، هنا، في ألمانيا أراقب بلدي ينهار، يُدمّر، وأرى السوريين يواصلون موتهم بجميع طرائق الموت وأشكاله، وتنأى المسافة يوماً إثر يوم بيني وبينه. أملي بانتهاء هذه الحرب قريباً يتضاءل، وأملي بعودة قريبة يتضاءل، وأملي بإمكانية حياة هادئة هنا يتضاءل. ولأنني لست من الذين يظنون أن الكتابة يمكن أن تنهي الحرب، أو تخفف من معاناة الناس وآلامهم، أو تمنحهم أملاً بخلاص.. أشعر أنني بلا جدوى، بلا تأثير، بل بلا أثر! لكنني مع هذا سأبقى منحازاً لقضيتي، للسوريين، أكتب لأجلهم، وأصرخ لأجلهم، وأبكي لأجلهم. لن أتوقف عن تسمية القاتل وفضحه بكل الطرق المتاحة والتي يمكن أن أكون قادراً ذات يوم على إتاحتها. سأضع جميع أصابعي بعين العالم الذي ترك، وهو القادر على الفعل، دكتاتوراً مجرماً يقتل شعبه على مدار ست سنوات بشكل يوميّ، دون أن يوقفه عن ذلك.

*خضر الآغا – شاعر وكاتب سوري مقيم في ألمانيا

خاص أبواب

اقرأ/ي أيضاً:

الاغتراب في المنافي اللغوية المتكرّرة: تجربة كاتب بعد منافٍ أربعة

عن الفنون التي لا تنام في المنافي! آراء ثلاثة مبدعين سوريين في الفنون وتغييراتها في المنافي

ما بين غربةٍ أعرفها… إلى مجاهل هذه الغربة

لجوء حتى حدود الغربة

التحقيق مع إمرأة أنفقت 16 مليون جنيه استرليني بموجب قانون مكافحة الفساد البريطاني الجديد 

سلسة سوبرماركت “ريفيه” تتطالب إحدى زبوناتها بثمانية مليارات يورو فقط!