in , ,

الجزر البشرية الغريبة: أسئلة شائكة عن الهوية والاندماج

العمل الفني عمران يونس omran.a.younis

منصور حسنو*

لطالما بدأت المشاكل الكبرى في التاريخ بحوادث صغرى، لكن خروج ألمانيا من المونديال الماضي في روسيا 2018 لا يشكّل شيئاً أمام تاريخ ألمانيا الكروي، فبدا الجدل الأخير حول لاعب الكرة الألماني “مسعود أوزيل” أكبر من المسألة الرياضية وخروج ألمانيا من المونديال.

إنّها مسألة في قلب علم الإجتماع السياسي وتناقضات الوضع الإجتماعي بين سكان أصليين وبين سكان غير أصليين (أجانب)، شرارة هذا التناقض كانت مع صورة اللاعب الشهير “أوزيل” مع الرئيس التركي “أردوغان” وحديث الإعلام عنها، وطلب الجهات المعنية بالأمر توضيحات وتفسيرات من أوزيل حول لقائه مع أردوغان.

يبدو لي أن هناك مشكلة عميقة بين المجتمع الألماني والمجتمع التركي في ألمانيا، وقد ظهرت إلى السطح مع اللاعب أوزيل. وأقول المجتمع التركي بكل ما يحمله معنى المجتمع علمياً، فكثير من الأتراك يعيشون في جزر بشرية في مختلف الولايات الألمانية منعزلة عن المحيط الإجتماعي، في السوق، المطاعم، المتاجر، المساجد، المراكز الثقافية الخاصة والمنظمات الإجتماعية. وهم في حقوق المواطنة متساويين بموجب الدستور والقانون كأي مواطن ألماني آخر، ولكن تكمن المشكلة أنه ورغم العهد الطويل الذي عاشوه في ألمانيا فقد ظهر الأتراك كشعب عصي على الإندماج، أكد هذا الأمر أنّ قلوبهم وميلوهم الودية ماتزال للنظام السياسي الحاكم في تركيا، في حين أنّ هذا النظام السياسي، ممثلاً بالرئيس أردوغان، لا يحظى بأي شعبية أو قبول لدى الشعب الألماني عموماً واتجاهاته السياسية خصوصاً، واليسار منه تحديداً.

هذا التناقض بين الإجتماعي والسياسي جعل صورة أوزيل مع الرئيس أردوغان تحمل بين رسائلها معنى التحدي وربما عدم الشعور بالإنتماء إلى ألمانيا، وكان خروج ألمانيا من المونديال مفتاحاً لفتح هذا الملف الشائك.

هناك مشكلة برأي في ألمانيا تتعلق بفلسفة الإندماج وبحقيقة الإتجاه الليبرالي في ألمانيا وأنصار المجتمع المفتوح في مقابل النزعات المنغلقة أو الأيديولوجيات الكارهة للآخر، ومن الجيد الجدل المثير اليوم حول أوزيل واعتزاله اللعب، ربّما لشعوره بأنّ المجتمع الألماني قد رفع بوجهه الكرت الأصفر، أقول من الجيد أن حدث هذا حتى نغوص في عمق المشكلة الإجتماعية السياسية بغية إيجاد الحل المناسب وحتى لا نرى كروتاً حمراء مستقبلاً!

يتداول الكتاب والمثقفون في ألمانيا عبارة تقول: الإندماج لا يكون من طرف واحد، وبرأي تدل هذه العبارة على جهل ببنية الدولة الحديثة وديمقراطيتها وشرعية وجودها ومبررات الدفاع عن قيمها وثقافتها وهويتها، والإندماج يتطلب تنازلاً من الوافد الحامل ثقافة البلد الذي جاء منه لحساب ثقافة البلد الذي يسعى لحصول جنسيته، فلا يمكن لي كسوري إن أصبحت ألمانياً مستقبلاً أن أطالب الألمان بأن يكون الفيلسوف السوري أبو العلاء المعري موضوعاً للدراسة في جامعاتهم كما هيجل مثلاً أو كانط.

التنوع الثقافي يغني البلدان ولكن هذا لا يعني أنّ طابعاً ثقافياً عاماً ومهيمناً يجب أن يكون هو القائد والسائد في هذه البلد أو غيرها، فكما لكل بلد نشيده وعلمه كذلك له هويته السائدة والرائجة كطعام الشعب وشرابه.

من الجيد أن يتعرف الألمان على ثقافات البلدان التي يتوافد منها المهاجرون القدامى أو الجدد، ولكن من الهراء أن نطالب الألمان أن يندمجوا مع تلك الثقافات، فنحن من أتينا إليهم وليسوا هم، وهذا يتطلب فهم هذا المجتمع وقوانينه واحترام عاداته وثقافته حتى لو كانت متعارضة مع ثقافتي الأم، هب أنني لا آكل لحم الخنزير ولكن من البلاهة والحماقة أن أطالب الألماني بأن يكف عن أكل لحم الخنزير كونه محرماً في الإسلام.

آلف باء الإندماج هو إيمان من يعيش في بلد ديمقراطي تعددي أن يؤمن بدستوره ويحترم قوانينه ويعرف حقوقه وواجباته وما له وما عليه كأي فرد في هذا المجتمع.

يبدو أنّ التجربة الألمانية مع الأتراك الألمان هي التي دفعت سياسة الإندماج لمزيد من الضغط على السوريين واللاجئين الجدد مع التشديد على دورات الإندماج، ولكن هذا لا يعني أبدا حدوث تغيرات جوهرية في فلسفة الإندماج لأسباب كثيرة ربما يتعلق بعضها بطبيعة الشخصية الألمانية أولاً وطبيعة التصور اللاهوتي عند المسلمين ثانياً، وليس من المستحيل على بلد فاضت فلسفته المثالية والمادية على العالم أجمع أن يكون عاجزاً عن خلق فلسفة جديدة للإندماج أو لما هو أكبر من الإندماج وما يمكن تسميته: الإندماج الوطني وخلق الشعور بالإنتماء إلى ألمانيا.

وبرأي أنّ الأدب الألماني الإبداعي الغارق في الإنسانية والكونية هو نتيجة الخبرة العميقة لهؤلاء الكتّاب والشعراء والروائيين وعلماء النفس الجرمان (فروم ويونغ وإدلر وهاينة وبول) بأزمة المجتمع الألماني وطبيعة الشخصية الألمانية، وربما تكون الحرب أو الحقبة النازية أحد أهم أسباب إنطواء معظم الألمان وميكانيكية طباعهم.

بهذا المعنى يمكن لنا القول: قد يشكّل اللاجئون الجدد فرصة أيضاً لفتح معاني جديدة للحياة أمام المجتمع الألماني، وليست بشرى خير علينا جميعاً، نكوص المجتمعات إلى النزعات ماقبل الدولة الحديثة سواء كان انزياحاً نحو اليمين الشعبوي الإسلامي السلفي أو انزياحاً نحو اليمين المتعصب الأوربي، والحياة لا تخلو من المساحات الكبيرة التي نستطيع الإنزياح نحوها جميعاً نحو السعادة والرفاهية.

 

خاص أبواب

*كاتب سوري مقيم في ألمانيا

اقرأ/ي أيضاً:

دور المساجد في الإندماج: مصارحات مؤلمة

اللاجئون السوريون وعقدة (يتربصون بكم)

عزف العود يحرمك من الزواج في مملكة التخلف

في برشلونة: فرحة “آرثور” تنسي الجماهير مشاكل فالفيردي