in

متصوفة برلين.. حاضنة التنوع الألماني

Sufi-Abend in Berlin mit Sheikh Eşref Efendi

د. محمد الزّكري*

في بداية تواجدي في ألمانيا قبل تسعة أعوام، اشتاقت أذناي لسماع حديث العرب ومجالستهم. فخطر ببالي أن أبحث على غوغل عن متصوفة في برلين.

عثرت على ثلاثة عناوين، وذهبت مع صديقي الألماني الذي تطوع للقيادة من مدينة كوتبس إلى برلين.  قادتنا الأقدار إلى المكان الأول على قائمتي واسمه:Sufi Zentrum Berlin (المركز متصوفة برلين). كان المكان عبارة عن تجمع في شقة أرضية، فتح الباب شباب رحبوا بنا كأنما يعرفوننا منذ زمن بعيد.

كانوا خليطاً، يدير اللقاء ألمان من أصول تركية. وعملاً بقاعدة “يا غريب كن أديب” التزمت الصمت وشرعت باستراق النظر هنا وهناك لمعرفة المحيط.

لفت انتباهي وجود بروفيسور ألماني من الجامعة المفتوحة ببرلين، وهو مدرس لعلم اللاهوت والمسيحية، مع بعض من تلامذته يخوضون أسئلة عميقة عن التصوف مع عميد الجلسة الشيخ “أشرف أفندي” الألماني من خلفية تركية. كان الحديث يدور حول مقاصد الإسلام التعايشية الكبرى، وهل سيكون التصوف الألماني جسر تواصل بين الشرق والغرب، خصوصاً بعد أحداث الرسومات الدنماركية وانعكاساتها السلبية على المجتمعات الأوروبية؟

شدّ انتباهي وجود ألماني هندوسي، يسأل الشيخ أشرف عن تصنيفه كوثني في أعين الشريعة الإسلامية، وما إذا كان التصوف الألماني يرحب به؟ وكان هناك ملحدون ألمان قالوا للحضور أنهم هنا فقط للاستماع إلى حلقة الذكر والإنشاد الصوفي دون أيما رغبة في اعتناق الدين الإسلامي.

المكان كان يعجّ بحضور من الجنسين، بملابس رصينة محتشمة، كما يعجّ بالتنوع العرقي من أتراك وألمان وعرب، وبتعدد العقائد من مسيحية وهندوس وملحدين ومسلمين ومسلمات.

انطلق الشيخ أشرف متحدثاً عن وهم فكرة النقاء الثقافي والعرقي الذي ينشر تحت عناوين الأصالة. وقال نحن كـ متصوفة نثق بالقرآن الذي يحدّثنا عن تعدد الشعوب والمرجعيات العرقية في كل مجتمع. ففي ألمانيا نتحدث اللغة الألمانية ولكنها بلهجات عديدة، بعضها يصعب فهمه، وهناك الصرب الذين يتحدثون بلغتهم، وهناك من يتحدث البولندية وآخرون على الحدود البلجيكية/ الفرنسية يتحدثون الفرنسية، ومن الألمان من يتحدث الهولندية. كل لكنة تجلب خصوصيتها الثقافية وكل لغة تجلب عاداتها. في المدينة الواحدة تجد مشجعين لأندية رياضية مختلفة وانتماءات لأحزاب سياسية متباينة، كل ذلك تعدد وتنوع.

وأردف: نحن نتحدث عن التعدد الثقافي (Multi Kulturen) ونسمع من الساسة الإسهاب في استخدام هذا المصطلح، ولكن هذه الكلمة تشير فقط إلى حقيقة تقع في كل المجتمعات وهي حقيقة يعرفها كل متصوف. بل إن المتصوفة يقولون بأن كل إنسان ثقافة قائمة بذاتها، من خلال اعترافهم بأن لكل إنسان سعة فهمية خاصة به، “الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق”.

اعترافنا بالتعدد لا يكفي، فلابد من العبور وخوض تجربة التعارف على هذا التنوع. لا يكفي أن أعلم أن جاري له ثقافة تختلف عن ثقافتي، ولا يجوز أن أتجاهل جهلي بثقافة جاري وبعجز قدرتي على الاتصال والتواصل معه فهذا يعيق سبل الحياة. لابد من العبور إلى جاري لكي أتعرف عليه.

لكن التنوع الثقافي يجلب معه صدمة الاختلاف، صدمة التباين مع بديهياتي ومسلماتي التي ألفتها في ثقافتي الخاصة بي. لذلك نحن كـ متصوفة نجهز أنفسنا لأهم حقيقة قبل العبور إلى الثقافات، وهي أنه يجب أن أقدم العذر عند اختلافي معه واختلافه معي في فهم الأشياء والأمور. لذلك يقول المتصوفة “قدّم بضعاً وسبعين عذراً لأخيك الإنسان”. فبنشر المتصوفة ثقافة “تقديم العذر” بينهم يكونون جاهزين لتحمل التباين الثقافي وصدمة اختلاف مرجعياته.

وأكمل الشيخ أشرف: نحن كـ متصوفة جاهزون للعبور إلى كل التنوع الألماني، ومستعدون للاستماع إلى كل ما يروق لنا وما لا يروق لنا ومستعدون للتعايش. القول بأننا متعددون يعني أننا أوصال ثقافية، وهذا لا يكفي وليس بحل بل هو لا يعدو كونه تشخيصاً للحقيقة البشرية.

نحن كمتصوفة نذهب إلى الحل من خلال إقامة جسور. بل ونخرج من ثكنات ثقافتنا إلى الإقامة فوق الجسور، لنلتقي هناك مع أتباع الثقافات الألمانية. ثقافتنا التصوفية خاصة بنا ولا نفرضها على أحد، بل نعلمها لمن يرغب. إننا نقيم هناك فوق الجسور خارج محليتنا الثقافية. لسنا سوى أناس يرحبون بلقاء آخرين خرجوا من محلياتهم ليقابلونا فوق الجسور مثل ما خرجنا. بعدما تتوطد الثقة فوق الجسور وبمعرفتنا الحد الأدنى عن بعضنا، عندها إذا أراد الإنسان أن يزورنا في محليتنا الصوفية نرحب به، وإذا دعانا إلى زيارة محليته الثقافية فسنزوره بكل أريحية.

بعد مداخلات من هنا وهناك انتهى الكلام، وبدأ الشيخ يتمتم بأدعية وانطلق الذكر، وتداخلت أصوات النساء والرجال مرددة: “لا إله إلا الله”، وأصوات الأطفال يركضون ويلعبون وانهمرت من الأعين الدموع وانتشت القلوب. ثم مدت على الأرض سفر بلاستيكية ووضع الطعام واشتغل الناس بتناوله. وهنا دفعني فضولي إلى التعرف على الجمع وتقصي المعلومات التي وضعتها بين أياديكم.

*د. محمد الزّكري. أنثروبولوجي بحريني يقيم في ألمانيا

اقرأ/ي أيضاً:

برلين ـ مسجد “ليبرالي” مختلط للجنسين ولكل الطوائف

نتحدث كثيراً عن المعشوقات في التاريخ العربي… ماذا عن الرجال؟

بين الرفض والإتلاف والسجن… التاريخ الخفي للأحاديث النبوية

“غوغل” تمنع مستخدمي هواتف “هواوي” من تحديثات أندرويد

مجموعة “السلام 313” العراقية للدراجات النارية تتعرض لحملة مداهمات واسعة