in

أنا لست شجرة!

مروة مهدي عبيدو – ناقدة وأستاذة جامعية، حاصلة على درجتين للدكتوراه في علوم المسرح وفنون الأداء

يترقب السؤال عن معنى الرقم المجاور لاسمي، اللحظة المواتية للإفراج عن نفسه، رغم محاولاتي الدائمة للهروب منه. لا أريد أن أدرك نقصان فترة وجودي في العالم عاماً بعد عام، ربما تجنباً لمواجهة سؤال الهوية المتخفي دائماً وراء الأرقام، الذي يفصح عن نفسه كاملاً في ذكرى الميلاد. 

لم أستطع أبداً فهم هويات الأرقام أو ربطها بوجودي. لم تخبرني أعداد الشموع فوق كعكة عيد ميلادي بشيء عني، كذلك الأرقام المطبوعة على وثيقة ميلادي، أو هويتي الشخصية، أو حتى بجوار تصاريح إقامتي. لم أستطع بعد أكثر من أربعين عاماً من الحياة، أن أتعرف على نفسي كلية. لكني تيقنت منذ طفولتي، أنني لست كل الهويات المعلبة والمعطاة لي دون اختيار: لست عدد سنوات عمري، لست اسمي المصاحب لي منذ ميلادي، لست لون بشرتي، ولا ديانة أهلي. كما أنني لست صورة كاملة من الأدوار الاجتماعية المجهزة مسبقاً، لم أسعَ أبداً لاستكمال الصورة، بل رحلت هرباً من كل الهويات المعلبة.

“الاندماج”:

أذكر إحساسي بالسعادة حين كنت أُقابل في عالمي الجديد بالسؤال عن هويتي، كان عليَّ مع كل بداية جديدة أن أعيد تعريف نفسي، وكان لي مطلق الحرية في اختيار الكلمات التي أصف بها ذاتي. حلمت أن يكون البدء من جديد في جغرافيا مغايرة، تحرراً من الهويات المعلبة. لكن الأمر لم يكن كذلك، بل أن اسمي الغريب عنهم، ولون بشرتي كانا يفصحان لهم عن الكثير من الهويات التي لا تتماس كثيراً معي. 

لم يكن الأمر تحرراً، بل مواجهة هوية أخرى معلبة ومجهزة مسبقاً، تنتظر مني أن أمحو كل الماضي، وأنا أبدأ في كتابة شخصيتي من جديد، وأرسمها تبعاً للقواعد الرياضية المثالية، التي قد تصل إلى حدود الخيال، حتى يُسمح لي بالانتماء، وذلك تحت عنوان محبب للقلوب يسمى هنا “الاندماج”. لم أتعرف على معناه الحقيقي إلا بعد سنوات من محاولاتي الفاشلة لأكون منهم، وللأسف لم أستطع أن أكون “المندمجة” حتى النهاية. 

لتكون “مندمجاً” هنا، عليك أن تقبل الرقم المُعطى لك، مثلك مثل الأشجار المرقمة في شوارعهم. عليك أن تنمو في مساحة محددة اختاروها لك، وأن تستسلم للشكل الذي يرونه مناسباً لك، وقبل كل شيء عليك أن تخون قدراتك الجسدية، وألا تتحدث بلكنة تفسد بها موسيقى اللغة المقدسة. نعم، غير مسموح لك أن تخطئ أبداً. أذكر غضب مدرّسة اللغة الألمانية الدائم مني، بسبب عدم قدرة أحبالي الصوتية على استخراج الحروف المتحركة كما يجب، لم يكن لي حق الخطأ، رغم أنها لم تستطع نطق اسمي صحيحاً ولا مرة واحدة. 

أذكر مشاعر العجز التي طالما انتابتني حين اتُّهمتُ بعدم قدرتي على الاندماج، بعد خمس سنوات كاملة من الإقامة معهم، لأنني لم أفهم قوانين الإقامة بدقة. قالت لي الموظفة في مكتب الأجانب البغيض أن عليّ ألا أنسى أننا في “ألمانيا”، وأن لديهم نظام وقواعد لابد أن تُتبع. كانت فخورة جداً بجملتها هذه، في الوقت الذي شعرت فيه بوخزة في القلب، لأنها اختصرتني في رقم، ولم ترني كإنسانة، بل أعطتني هوية ليست لي، وسربت لي اتهامات غير عادلة.

اعترف أني أمسكتُني يوماً متلبسةً وأنا أحلم بلغتي الأم، بعد سنوات طويلة من الغربة. واعترف اليوم بأنني لم أستطع أن “اندمج” كلية، لأنني لم أملك القدرة على التخلص من لكنتي الأجنبية، كما أنني لم أستطع محو طفولتي وملء ذاكرتي بطفولة أخرى، ولم أستطع تغيير لون بشرتي أو إعادة تشكيل جهازي الصوتي.

اعترف اليوم بأنني لم أعد أشعر هناك بالأمان الذي أشعر به هنا، وبأنني استطعت مع السنوات تكوين وطن صغير في قلبي رغم رفضكم. واعترف اني فشلت في الكثير من محاولات الاندماج لأكون كما تحلمون، لأنني لست شجرة. 

اعترافات:

لم تغير الأرقام الكثيرة المجاورة لاسمي من هويتي، رغم مرور السنوات واختلافات الجغرافيا، فأنا ما زلت تلك الإنسانة التي تحلم بالطيران والتحليق للتحرر من الشروط الأرضية، وما زالت الطفلة بداخلي ترفض أن تُختصر في رقم، كما أنها مازالت تكره الأدراج المرتبة، والقواعد الثابتة التي لا تليق بالبشر… ما زالت تحاول الطفلة بداخلي الهروب من جمود الأرقام، ومن قسوة اللغة، ومن عبء الماضي، ومن قولبة البشر. 

ما زلت بعد كل هذي الأعوام، تلك المرأة الملونة، التي تلعن الألوان الأحادية غير الممزوجة، وتعشق الألوان المخلوطة، وتترقب نتائج التمازج بشوق غير مسبوق. أنا تلك “الأجنبية” التي ترفض سياسات العالم الأبيض، وتكره اختزال البشر في أرقام. كما أني ما زلت أعلن يومياً عن رفضي الدائم للظلم القائم في العالم، وكرهي للإعلام المسيس. أنا تلك الملونة المجنونة، التي ترغب بالصراخ في وجوه البشر، ليستيقظوا من غفوتهم، ويتذكروا انتماءهم لأسرة أكبر، انتشرت على مساحات اليابسة عبر ملايين السنين فوق الكرة الأرضية. نعم أنا هذه المجنونة التي مازالت تؤمن بالانتماء للبشرية، وبقدرتها على خلق عالم آمن وعادل للجميع.

مواد أخرى للكاتبة:

أسطورة أم صدفة؟

بين هنا وهناك!

أسود وأبيض!

رائد فضاء ألماني: الصعود إلى القمر هو وسيلة للحفاظ على الأرض

سؤال “بريء” يؤدي إلى ترحيل اللاجئين من أمريكا