in

قراءة في كتاب لم أقرأه بعد!

 نيرمينة الرفاعي | روائية أردنية

أريد هذه المرّة أن أقدم لكم قراءتي في كتابٍ لم اقرأه بعد!

نعم! ما الغريب في الأمر؟ الأيام تمرُّ بسرعة والوقتُ ضيق ورئيسُ التحرير ينسى أنني أنسى التواريخ ويفترض أنني أمشي على الرزنامة بدقة كطفلة تلعب “الحجلة” وتقفز بقدم واحدة على المربعات أمامها، وبصراحة أكثر، فأنا أعتقدُ أنَّ كتابة قراءة عن كتابٍ لم تقرأه هو أمرٌ يتطلب شيئًا من الذكاء وشيئًا أكثر من مهارت الإقناع، وأنا سأحاول هذا الشهر أن أكون “ذكية” بما يكفي لأقنعكم أنني أستطيع نقل مشاهد الحرب في ربع صفحة، وسأحاول أن أنقل لكم “الحكاية” بخطوطها العريضة، لا لشيء، ولكن كي لا أوقظ فيكم وجع المسيح الجريح على صورة غلاف الكتاب وهو مسجى بين يديّ مريم المباركة بين النساء، المباركة ثمرة بطنها، حتى لو كانت ثمرة البطن تلك إلها نازفًا بين يديها.

بدأت بعدم قراءة الإهداء طبعًا كما قد تتوقعون، رؤى الإبراهيمي تستخدم مصطلح “رائحة الياسمين” في الإهداء، أتصدقون؟ وهذا سبب كافٍ كي أقفز عنه! ولا أعرف ما قدرة ذاكرتي الشفافة على أن تتستر على العطر الذي فاح في ثناياها، الياسمين سبب آخر للوجع، وسبب آخر للتجاوز!

تبدأ رؤى قصصها بـ”الجندي في إجازة”،  يخطر لي في تلك اللحظة لو يذهب الجنود جميعًا في إجازات ويتركون الحرب وحدها، بعد صفحات قليلة تقول الكاتبة على لسان الجندي: “كنت أتمنى أن نترك أمكنتنا فارغة، ونعود إلى بيوتنا بلا أسلحة، كيف ستستمر المعارك إذن”؟، أرأيتَ يا عزيزي القارئ؟ الكاتبة تقرأ ما في عقلك تمامًا، أترغبُ في قراءة عقلك بهذا الوضوح والانكشاف؟ هل أنتَ جريء إلى هذا الحدّ؟

عن الحرب التي عاد جنودها من إجازاتهم تحكي رؤى، وعن الذين غادروها “جثثًا منفخة لا تسعها توابيت عادية”، تقف بحكايتها في البرزخ بين الحياة والموت، والحزن الشفيف يغلف روحها وهي تمّر على الحواجز بين البنادق، وستحكي لك عن المقاتلين الذين ينكؤون جروحهم بأظافرهم الطويلة وهم يحاولون تمييز وجوه ضحاياهم، أتريدُ ان تقرأ كلَّ هذا؟

ستعرف أيضًا الرجاء والهلع الذي لن يكفيكَ لتقنع الأطباء بأن يجدوا مكانًا في المشفى لابنك المصاب، والبيوت البديلة التي ستسكنها محاولاً نسيان فناجين قهوتك التي وجدتها تُباع في “محل غنائم الحرب”، أقصد في “محل الأدوات المنزلية” كتسمية ألطف ومحاولة أخيرة لابتلاع دموعك.

لا، لا أتحدث عنك عزيزي القارئ، أنا أتحدث عن أبطال “الحكاية التي لم تنته بعد”، وقد يختلط الأمرُ عليك أحيانًا لأنك لا تقرأ ما سبق ذكره، بل أنتَ تعيشه!

ستخلعُ الأبواب وتستخدمها كوقود، وستحتضن ألبوم الصور وكأنه الفرد الأخير المتبقي من العائلة، وستحتمي بالظلام في مسيرك بين الصفحات كي لا يرى أحدٌ وجودك فيقتنصك!

لن يمنعك الظلام من إكمال الحكاية، ولكنك ستضع عقلك في كفّك وأنت ترى المجنون الذي يلف خصره بالحزام الناسف ويعبر نحو جنانه الموعودة على أجساد أناسٍ لا تستبعد أن يكون جسدكَ يومًا بينهم.

ولن تحتاج للنور كي ترى أسماء وصور الشهداء المعلقة على أعمدة الكهرباء والشجر، فالأمر أكثر سطوعًا من أن يحتاج لإضاءة! هل ترى أيضًا السماء الرمادية كما وصفتها رؤى؟ لا لا تقرأها، انظر إلى السماء فقط بعيون الحكاية وراقب الغيوم وهي تتخذ شكل براميل متفجرة أو طائرات مقاتلة! ولا تنسَ في هذه اللحظات أن تنتبه لموضع قدمك كي لا تتعثر بجثة لم تكتشف بعد!

إيّاك أن تسأل عن معالم الطريق أو الحيّ، وحاول أن تنسى الفرن وبياع الفطائر، فجميعهم حرقت محلاتهم بتهمة تمويل المسلحين. تتداخل المشاهد بين صفحات رؤى الإبراهيمي وبين صوت حقيقي أسمعه عبر نافذة غرفتي المفتوحة لبائع في كشك قهوة وهو ينادي: “تنين حلوة”!

أنا لا أقرأ الصفحة 70 من الكتاب، ولا أرى الجملة التي تقول: “أشتهي خبزًا طازجًا من فرن القيمرية، أشتهي فنجان قهوة في مقهى النوفرة”! ولا أتخيل بتاتًا أنَّه بعد لحظات سيشرب شخصان قهوة حلوة بالقرب من نافذتي، ولن أسأل نفسي عن مدى توازن الحلاوة والمرارة في أرجاء الأرض!

وعلى بعد آلاف الكيلومترات لن أتخيّل أيضًا أن هناك شخصًا يقف في كنيسة قديمة بمصابيح متدلية كالشموع، ينغمس في المناجاة وهو يقول: “نمجّد اسمك يا رب! يا من خلقتنا بالخطيئة، لماذا نعيش؟ لماذا نولد؟ لماذا نموت”؟

في نهاية مروري على الصفحات بطرف قلبي غير الممتلئ بالنعمة، وجدت نفسي ما زلت أقرأ الإهداء:

“إلى امّهات سوريات ما زال يتسلل إلى عيونهن النور من مكان ما”، أهي “إلى عيونهن”؟ أم “من عيونهن”؟ لا أعلم! فأنا لم أقرأ جيدًا، ولكنني أرى أنَّ النور حولهنّ في كل مكان!

كيف يمكن للمرأة المغتربة أن تثبت ذاتها؟

حلقة السلام من أجل سوريا تدعو إلى جلسة نقاش: النساء السوريات بين النزوح واللجوء في ألمانيا