in

نوجين مصطفى: على كرسيها المتحرك عبرت الحدود إلى مستقبل واسعٍ

© UNHCR/IVOR PRICKETT

حاورتها سعاد عباس.

طفلةٌ أمضت حياتها حبيسة كرسيٍّ متحرك، في غرفةٍ في الطابق الخامس، لم تذهب إلى المدرسة قط، تتابع الحياة من شرفتها، ومن شاشة التلفاز، اعتلت بكرسيِّها قارباً متهالكاً، يحمل لاجئين عبروا البحر، إلى بر الأمان الأول، رغم مخاوف ومتاعب الرحلة، كانت تلك المرة الأولى لنوجين في البحر.. وكانت سعيدة.

عام 2015 عبرت الفتاة ذات الستة عشر عاماً البحر، من تركيا إلى اليونان، قطعت 2500 ميل، وحدود تسع دول، لتصل إلى ألمانيا، تقول هذه الطفلة للجميع: “منذ الآن، لم يعد السؤال: هل أستطيع القيام بشيء ما، بل متى سأقوم به” فكل شيء الآن قابل للتحقيق. تذهب إلى المدرسة في مدينة كولن، حيث تعيش مع شقيقتها وشقيقها، تتكلم الألمانية بطلاقة، مثلما الإنكليزية والكردية والعربية، أحلامها كثيرة وكبيرة، وتعلم أنها ستنجح.

التقت “أبواب” بنوجين مصطفى، التي مازالت تضج بها وسائل الإعلام الغربية، وصولاً إلى أمريكا، لاسيما بعد صدور كتاب عن حياتها ورحلتها، قامت بكتابته مع الكاتبة الإنكليزية كريستينا لامب، بعنوان “نوجين.. رحلة مدهشة لفتاة على كرسي متحرك، من سوريا التي مزقتها الحرب”.

تصف نوجين حماسها لفكرة السفر: “بالنسبة إلى شخصٍ مثلي، مسجون بين أربعة جدران، كان من الطبيعي جداً أن أتحمس، وأن أتمسك بأي أمل يوصلني خارج حدود “سجني”، رغم أنني لم أحيّد فكرة الموت، وعدم النجاة من تفكيري، إلا أن حماسي كان الغالب”. وكانت لحظة الوصول إلى ألمانيا، هي لحظة البدء بحياةٍ جديدة. وأنا سعيدة، ليس فقط لأن الإمكانيات التي قدمتها لي ألمانيا فاقت تطلعاتي، وإنما أيضاً لأن مجرد الوصول، كان إنجازاً بحد ذاته.

“أشياء قليلة في هذا العالم، أسوأ من أن تشعر بأنك ضيف غير مرحب به”

تدرك نوجين تماماً، قدر المعاناة التي يعيشها اللاجئ في أوروبا، من لحظة وصوله، وأزمة التعامل مع القوانين، والبريد، ومع حقيقة أنه غريب بكل ما يمثله أو يفعله. وقد شرحت لأبواب، إلى أي مدى أثر ذلك بها وبتطلعاتها:

“أشعر بأنني في اختبار مستمر. يختبر المجتمع المحيط بك قدرتك على الاندماج، وتعلم اللغة، وأنك لا تشكل خطراً، أو إضافة سيئة عليه. كما أنه لدي احساس دائم بالمسؤولية، لأقدم صورة إيجابية عن القادمين الجدد، فالإعلام لا يتهاون في تقديمنا كإرهابيين، وتصويرنا على أننا الخطر الذي يهدد المجتمع الأوروبي.

لذلك حاولت بجميع لقاءاتي، توصيل رسالة بسيطة، ألا وهي أننا لسنا هنا بخيارنا، ولا لنهدد أمن الأوروبيين، بل خوفاً من الموت والدمار، الذي واجهناه في سوريا. رغم أني أعي تماماً، خلفية تفكير الغربيين تجاهنا نحن المهاجرين، إلا أنهم للأسف، لا يعلمون شيئاً عنا، أو عن لغتنا، أو طرق تفكيرنا، أي أننا مرغمون دوماً على التبرير، وتقديم أنفسنا بشكلٍ أفضل، وأتمنى فعلاً، أن أكون قد أعطيت هذا الانطباع الجيد عني، وعن الآخرين”.

لدى نوجين رعب حقيقي من “كيف سيتذكر التاريخ الأزمة السورية”، هي لا تريد أن تكون رقماً في حسابات الحرب السورية، لذلك تحاول أن تذكّر العالم أجمع بأنها “إنسان”، لديها ذاكرة، فيها تاريخ بلدها، من الأسواق القديمة، إلى الأطعمة المشهورة، إلى أقدم القلاع والكنائس في العالم، وتحاول أن تدون ما مرت به، هي وجيلها في رحى الحرب الدائرة.

روت نوجين هواجسها هذه للإعلام الألماني والعالمي، لتثبت لهم أنها ومن تمثلهم من قادمين جدد، لا يشكلون أي خطر، بل يريدون العيش والنجاح في المستقبل. وجاءت ردود الأفعال، على تصريحاتها، وظهورها الكثيف في الإعلام الغربي متفاوتة، لكن أكثرها إيجابي، تقول نوجين: “لم يكن التعاطف معي شخصياً فقط، وإنما تعاطف مع القضية السورية بشكل عام، وهذا ما يهمني بالدرجة الأولى، أردت أن يعرف العالم، ما يتعرض له الشعب السوري كل يوم، من استخدام الأسلحة الكيميائية، إلى التهجير والتجويع. وبالطبع في جميع لقاءاتي، لم أغيّب الحديث عن تجربتي الشخصية، والتأكيد من خلالها، على أننا لسنا مشكلة بحاجة إلى حل، وإنما نحن مصدر مهم، ممكن الاستفادة منه في شتى المجالات”.

اليمين المتطرف وسياسة لوم الآخر

وعن صعود الأحزاب اليمينية المناهضة لوجود اللاجئين في ألمانيا تقول نوجين: “عندما يشعر عامة الناس، أن حكوماتهم تتجاهل مشاكلهم الاجتماعية، فإنه من السهل أن يتبعوا سياسة لوم الآخر، مما يدعم صعود حركات التطرف اليمينية.

هدفي الذي أُصرُّ عليه في كل المنابر الإعلامية، هو أن أوصل أفكاري إلى السياسيين في ألمانيا، وليست أفكاري وحدها، وإنما مايود قوله الألمان أنفسهم، وأن تصل رغباتهم ومشاكلهم، إلى مسامع المسؤولين، حتى يقل التعاطف، أو الدعم الذي يقدمه الناس للأحزاب اليمينية، أو لأي فكر متطرف. وحتى لو كانت الأعداد الهائلة من اللاجئين التي وصلت إلى ألمانيا، ربما خلقت مشكلة فيها، إلا أن هؤلاء أناسٌ بحاجة مأوى، فلا يمكن أن يقع اللوم عليهم.

رحلة ألهمت العالم

التقت نوجين بالكاتبة كريستينا لامب، على الحدود الصربية. تزامن اليوم الأول لنوجين هناك مع إغلاق الحدود بشكل نهائي، في 16 سبتمبر 2015، ومع تواجد كبير لوسائل الإعلام، كانت نوجين في الصفوف الأولى، التي وقفت ذلك اليوم، احتجاجاً على إغلاق الحدود، فوصل الخبر إلى مابعد الحدود الهنغارية، بأن هناك فتاة مقعدة على كرسي متحرك، تقف في تلك الصفوف، وتتحدث اللغة الإنكليزية. وحينها تم التواصل، بين محطة البي بي سي وجهات إعلامية أخرى، للحديث مع نوجين، ومن ثمّ تم الاتفاق على موضوع الكتاب، والمقابلات الأخرى، حققت نوجين وكتابها انتشاراً واسعاً، لكنه ترافق مع ضغط وسائل الإعلام المستمر حتى الآن، وتشعر أحياناً أنها تعيش حياتين: “واحدة أمام الإعلام، وفق ما يحتّمه عليَّ واجبي تجاه المجتمع، كفتاة سورية من ذوي الاحتياجات الخاصة، تحاول أن تلقي الضوء على ماقد يعتم عليه الإعلام، والأخرى حياة فتاة مراهقة عادية، وبالطبع لا أنكر أني محظوظة بأخذي لهذه المساحة الإعلامية الكبيرة، إلا أنني لا أرى نفسي شخصاً مهماً للغاية، فأنا أحب نفسي عندما أكون ساذجة، وأتصرف ببعض الغباء أحياناً”.

تقول نوجين إن أكثر ما كان يسعدها، هو دهشة المضيف، أو الضيوف المتواجدين في المقابلة من أحاديثها، فهم لم يتوقعوا من فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة، أن تتمتع بهذه الجرأة؛ “وهذا تماماً ما أريد إيصاله للناس، أننا نملك الإصرار، والاحساس بالمسؤولية، والواجب تجاه قضايانا، مثلهم تماماً، وأن إعاقتنا لا تَحدّ من عزيمتنا، ولا تستدعي النظر إلينا بعين الشفقة”.

الخوف، الفشل وفنّ اللامبالاة

“نعم، أحياناً يتملكني الخوف من الفشل”، تقول نوجين؛ وتتابع: “ينتابني إحساس أني لن أستطيع أن أكمل، وبسبب عدم توقعي لهذا الانتشار الكبير، الذي رافق مسيرتي منذ أن قدمت إلى ألمانيا، أحياناً أشعر أني مزيّفة، لا أشبه نفسي، أو على الأقل، ليس هذا ماكنت أحلم به، لكنني قرأت كتاباً منذ فترة، بعنوان (الفن الخفي للامبالاة)، للكاتب مارك مانسين، ومن أهم جمله – أن أي إحساس تشعر به تجاه الأشياء، سيمرّ دون شك، فقط عليك أن تعطيه الوقت الكافي، وسينتهي، وستعاود الشعور بشيء آخر-. وأنا أؤمن بهذا، وهو في الحقيقة مايساعدني على تجاوز الكثير من الافكار السلبية.

“كما أنني أعتبر نفسي محظوظة في الحياة جداً، خصوصاً وأن لي أهل رائعون، يرافقونني لحظةً بلحظة، حتى لو من بعيد، وأختٌ أكثر من رائعة، فهي أمي وأختي وصديقتي في هذا العالم الجديد، وهي من دفعتني لهذه الرحلة كلها”.

لآلاف العابرين مثلها إلى بلدان اللجوء، ماذا تقول نوجين؟

الوقت سيساعدهم، فهم ربما يظنون الآن، أنهم لن يستطيعوا أن يتقدموا خطوة واحدة في هذه البلاد، لكنهم مع الوقت، والقليل من الجهد سيعتادون، فجميعنا نظن أن آلامنا وأوجاعنا في وقتها لن تمر، ولكننا مع الوقت ننساها.

يستطيع القادمون الجدد أن يخلعوا عن أنفسهم المسؤولية، في تقديم أنفسهم بصورة اللاجئين الناجحين، ويستطيعون أن يعيشوا ببساطة دون تحمل كل هذا العبء، ولكن حتى تستطيع العيش مع محيطك على الأقل، وليس فقط مع المجتمع الألماني، يجب أن تشارك وتتفاعل، أن تأخذ منهم وتعطيهم، أن تشرح لهم ماضيك، وتتعرف على ماضيهم، ولا أعتقد أن الابتعاد عن هذه المسؤوليات، سيساعد في الاندماج، والعيش المشترك.

الاندماج برأيي، هو أن تبذل مجهوداً في فهم الآخر، وأن تتيح له ولنفسك الفرصة، في التعرف على ثقافتيكما المختلفة، وأن تضع نفسك في بعض المواقف مكانه ، حتى تستطيع أن تفهم ردود أفعاله، وتعطيه المبرر المناسب لبعض السلوكيات، وأهم ما في الأمر، هو الرغبة الحقيقية لدى الأشخاص، في الانخراط في المجتمع، فرغبتي بالاندماج، جعلت مني مراقِباً محترفاً لسلوكيات الآخر، وعلى هذا الأساس، أستطيع اختيار ما يناسبني، ومالا يناسبني من هذا المجتمع.

© UNHCR/IVOR PRICKETT

تحلم بالسفر إلى الفضاء لكنّ شيئاً واحداً يخيفها

“نعم وبشدة” تقول نوجين، “أكره الجاذبية، أشعر أنها تربطني، وأنا أريد التحليق، ولا أخاف من عدم تحقيقي لهذا الحلم، لأن لدي الايمان الكافي، بأنني إذا بذلت ما بوسعي، فسأصل إلى أهدافي، وحتى إن لم أصل، فلن يمنعني هذا من الحلم مرة أخرى.

كانت لدي الكثير من الشكوك في مقدرتي على فعل أي شيء، لكني لم أفقد إيماني بنفسي أبداً، أنا أؤمن بفكرة، أنه لايوجد شخص زائد في هذه الحياة، فالجميع خُلقوا لسبب، وهذا مايزيد من إصراري للوصول إلى أهدافي في هذه الحياة.

الاحساس بأنني متهم حتى تثبت براءتي أمام المجتمعات الأوروبية، هو احساس سيء جداً، وهو محفّز بحد ذاته للتفاعل، ومحاولة تغيير هذه النظرة الظالمة تجاه اللاجئ، وأعتقد ان هذه مسؤولية الجميع، فأنا أخاف بالفعل، أن يصبح صوت القنبلة أقوى من صوتنا”.

قبل أيامٍ فقط حلمٌ آخر من أحلام نوجين تحقق فجأة في برشلونة

قامت مؤسسة  نادي برشلونة بإرسال حافلة الفريق إلى كولونيا حيث تقيم، لتصطحبها إلى الكامب نو، وهناك استقبلها ميسي الذي التقط معها صوراً تذكارية، قبل أن تلتقي نجومها المفضلين الآخرين، وبينهم بيكيه وتير شتيغن وإنييستا وعدداً من نجوم البلاوغرانا خلال حضورها مباراة الليغا ضد سيلتا فيغو.

اقرأ أيضاً:

فدوى محمود… من المعتقل إلى المطالبة بتحرير المعتقلين

 

اعتقال أكثر من مئتي شخص في إيران لاحتفالهم بقدوم الشتاء

لاجئون يقودون جولات سياحية للسيّاح في برلين