in

في البساطة والهجران

جزء من لوحة لـ غوستاف كليمت

علا شيب الدين*

المكان بالنسبة إليّ كثافة مجدولة وسيولة الزمان. تتطاحنان، تتطارحان، تنصتان، تتناغمان، تصمتان، تتقدان، تترمّدان، تتخضّبان، ترتعشان، تهدمان، تبنيان، تتفككان، تفككان، تنسجان، تحلاّن، تربطان، تخضرّان، تيبسان، تعلوان، تهبطان، ترتجّان، تتفجّران، تخمدان، تطولان، تقصران، تمتدّان، تجزران، تهمدان، تشتعلان، تخبوان، تنكشفان، تسرّان، تفصحان، تُظلمان، تنيران..؛ لكنهما مجدولتان. كلتاهما صرخة وجودٍ مطلق وتشظٍّ، المكان صرخة متشكِّلة وتتشكل بلا هوادة، الزمان ريح تصفر بلا هوادة.

كلّما حللتُ في مكان انحلَّ وصار فيَّ نسغًا، أو سرمدًا وإنْ للحظة مدمِّرة تارة، ملتفّة طورًا كمِثل نبتة تنسلّ بهدوء وبطء صاعدَين حول جذع شجرة، حتى تكاد تصيره أو يصيرها. أنجدلُ وجديلة الكثافة والسيولة، ولا أنتهز. تُرى أيهما الأبلغ، الزمان والمكان أم الشعور فيهما وحيالهما؟.

أفكر من مكاني هنا وزماني، في مكاني هناك وزماني، في بلدي الأم سوريا، في شوارعي وأزقتي، في حاراتي، في بيتي، في غرفتي، في دهاليزي ومتاهاتي، ما حالها من بَعدي وفي بُعدي؟ هل لا أزال أسكنها مثلما تسكنني؟ هل تشتاقني مثلما أشتاقها؟ هل تتألم لفراقي وتبكيني وتنزف؟ أحنُّ إلى رسائل مختبئة في حنايا غرفتي، إلى سريري، إلى ألعابٍ لكلٍّ منها حكاية وشخوص وزمان ومكان. أحنّ إلى مكتبتي الصغيرة تحت شبّاكٍ يطلّ على صخرة كنّا نسمّيها “كرسيّ الملك” لطالما نُسجت حولها حكايات وحكايات، مكتبتي التي صنعتها بيديّ هاتين ذات شقاوةٍ ممطِرة.

أصْل مكتبتي خزانة خشبية “بوفيه” (مَن قال إن الأصول ثابتة لا تتحوّل؟!).

كانت تلك الخزانة تقبع في إحدى زوايا المطبخ، وتحتمل ثقل الصحون والكاسات وأشياء كثيرة أخرى. ظلّت على مرّ عقود تحتمل وتصبر، إلى أن اندلع يومٌ انهارت فيه، معلنةً هجران الثقل والمكان؛ فرُمي حطامها خلف البيت. وقفتُ حينذاك أمام الحطام حزينة، هالني انهيارها، ثم رمْيها بعد نسيان أفضالها في احتمال ثقلٍ مديد.

اجتاحت رأسي فكرة مجنونة، تعيد إلى هذا الحطام كرامته، وتكرّم خزانة احتملت الكثير وصبرت بصمت بالغ. حملتُ الحطام إلى غرفتي، إلى وحدتي، إلى عمقي، ورحتُ أنفث فيه الروح. أعدتُ للأرجل المتهاوية ما ضاع منها، أي نعمة الوقوف فوق أرض هي بمثابة قلبِ مبسوط بساطة كفّ مبسوطة لتلقّف حبّات مطرٍ شاردة؛ وفوق الأرجل الواقفة مجدَّدًا ارتفعت ثلاثة رفوف، معلنةً ولادة مكتبة صغيرة. رصفتُ فوق الرفوف كتبًا في الأدب وفي الفلسفة والعلم، وعلى سطحها، ألقيتُ أشياء خفيفة خفّة الروح، النبض، الخلايا المنتجة. تعايشنا أنا والخزانة/المكتبة بعد ذلك، سنوات طوال. تعرف ما بي وأعرف ما بها. تتذكَر الصحون والكاسات والملاعق، فأذكّرها بالآداب والأفكار والمعارف. أرعاها ليلاً نهارًا، برمش العين وماء القلب وحشائش الوجدان.

الآن، هي وحيدة من دوني هناك، وأنا وحيدة هنا من دونها، يعزّيني في هذا الهجران الموجِع، أنَّ سرّها يسكنني، وربما يعزّيها أنّي أودعتها الكثير من أسراري وأحلامي ورؤاي.

***

بعيدًا من ضجيج “الإجراءات” و”اليوميات” وقسوتها وابتذالها واستنزافها المستمر للفرادة، أمشي هنا أحيانًا.

تأخذني الدروب إلى أمكنتي من غير ترتيب أو تخطيط، ومذ اهتديتُ، قبل بضعة أشهر، إلى عنوان المكتبة المركزية في “نويماركت”، المنطقة التي تقبع بدورها في مركز مدينة كولونيا غرب ألمانيا؛ لم أنقطع عن زيارتها، حتى أني بتُّ أشعر حيالها شعور البيت، لا المكتبة العامة.

تُعيرني هذه المكتبة/البيت، روايات بلغتي الأم، تسمح لي بالجلوس متأملة ساهمة صامتة وشاردة، تتلقّفني كلّما اقترب التيه، فتدفعني إلى الخطو الهادىء في الأزقة بين كتبٍ مرصوفة فوق رفوف، أستشعر رهبة كنوزها، ونفحات المعرفة المنبعثة منها، فأعدُها بصمت، أن أعيش أمكنتها وأزمنتها إن استطعتُ يومًا إتقانَ لغتها.

أصعدُ الأدراج وأنزل متنقلة من طابق إلى طابق. ذات صعود، بينما كان يطحنني الشوق إلى “مكاني” هناك، إلى سوريا، ويخلخل كياني الحزن حيال جرحها الغائر، ويخضِّبني شعور معذِّب بوصفي “ناجية” (هل حقًا أنا ناجية؟!)؛ عثرتُ على مكانٍ كمَن يعثر على كنز في جزيرة مهجورة، تنتظر وتترقّب وتتلوّى. نبَّهني المكان حين عثرتُ عليه أو تعثّرتُ به، إلى كونه مكانًا أيضًا، وقد يكون لي وطنًا أو كونًا.

المكان هو غرفة بسيطة تُدخلكَ عالمها العظيم ببساطة عظيمة. عالم يُفصح عن نفسه ببساطة سهول وغابات ليس لآخِرها آخِر. شدّتني من أعماقي بساطة تلك الغرفة الصغيرة ذات الأثاث البسيط الدافئ: سرير خشبي صغير يبدو كأنه منذور لنداءات الغابة الأولى، يغطّي فراشه حِرام خفيف خفة ألوانه ورشاقتها في الأحمر والأزرق والأخضر والبنّي والأبيض، استلقت فوقه كتب ذاوية من فرط الأيام وشغف القراءة، وثمة طاقية شتوية، عُلِّقت بالقرب من قناطره الشاهدة في حنوّها وتقوّساتها، على أحلام ورؤى وخيالات وأجنحة. سجّادة صغيرة مربَّعة الشكل، يقف فوقها مكتب خشبي يعلوه هاتف قديم وقرطاسية وأوراق وظروف رسائل بريدية قديمة، وفنجان قهوة منتشٍ بالارتشاف بعد ساعات طوال من العمل، تحيط بهذا كلّه رفوف مرصوفة بالكتب.

إنها غرفة عمل الأديب الألماني المولود في مدينة كولونيا، هاينرش بول (1917-1985). في حضرة الأمكنة المهجورة، يصبح استحضار الأرواح على أشدّه. تنعجن أرواح الحاضرين مع أرواح الغائبين، ويشرع الخيال بنسج القصص والروايات حول أناس كانوا “هنا”، وعاشوا “هنا”، قبل أن يرحلوا تاركين آثارًا تتركها كثافة المكان في حضنها، لكي تمارس بقاءها في صمت مهيب.

هكذا راحت روحي تنعجن وروح صاحب هذه الغرفة البسيطة المهجورة. إن أعظم الأمكنة هي تلك التي تُشعرُك بأنك إنسان، وأنا في كل مرّة أقف فيها متأملةً غرفة هذا الأديب، أشعر في روحي تحلّق، وأفكر في أنه بقدر ما تقزّمنا وتحجّمنا وتحطّ من شأننا الغرف الفخمة والضخمة لذوي السلطة التافهة والنفوذ التافه في كل مكان وكل زمان؛ بقدر ما نشعر بأننا عظماء أمام بساطة عوالم العظماء من البشر. أحيانًا، يكون فهم الشيء معناه أن نجد فيه شيئًا منّا، وأنا وجدتُ في غرفة هاينرش بول، شيئًا منّي، من غرفتي هناك، من ذاكرتي.

بساطة غرفة هاينرش بول مهمة إلى درجة “بيت بلا حرّاس”، ولا محلّ لإيمان الأديب هنا وكفره فيما يخلق. أوليس هو الخالق؟! إنها بساطة غرفة، تشدّ إلى التفكير في مفهوم البساطة في حد ذاته ولذاته. في البساطة، تتدفّق الأفكار من القلب، فتغدو فجرًا لكل معرفة، وكل حدس، وخَلقًا للصور وتكوينًا للمفاهيم. البساطة هي رفضٌ لكل ما من شانه أن يوقف الحياة في قانونها الأسمى الذي هو الاستمرار. ومن خلال البساطة، تتغلّب الإرادة الواحدة الكبرى على الإرادات الجزئية المبعثَرة والممزَّقة، مستأنِفةً الطواف من الحياة إلى الفكر، ومن الفكر إلى الحياة، وببراعةٍ “سقراطيّة” عارفة، تُوقع غير العارف في الاضطراب.

***

تحتاج الفخامة والضخامة الخارجية الصادرة عن خواء داخلي، أي خواء الروح والعقل والقلب والوجدان، إلى الكثير من الكذب لكي تملأ هذا الخواء.

تقتلان كل ما يمتّ إلى الحياة بصلة في سبيل الحصول على ذرائع تسدّ بها الخواء، لكن عبثًا تفعلان، فلا الخواء يمتلىء، ولا الكذب والقتل يتوقّفان! بيدَ أن ثراء الفكر في البساطة يتحوّل إلى موقف حيوي جوهري، أو إلى حركة حياة صوب الحياة، تتحرّر فيها النفس من كل ثقل، وتلتمع أعظم التماع.

“لكنها صغيرة جداً”، قالت بشيء من الامتعاض حسبما بدا لي، بينما كنّا بالقرب من كنيسة جميلة المبنى وبسيطة، في قرية نائية ووادعة لا تبعد كثيرًا عن مدينة كولونيا، وبينما كنتُ أعبّر عن إعجابي ببساطة تلك الكنيسة وحنوّها. ثم أخذ الحوار يتعمّق، فقلتُ: “هكذا يجب أن تكون الكنيسة، بسيطة بساطة المسيح نفسه. إن الضخامة والعملقة، والصلبان الباذخة الفخمة ليست من الإيمان الحقيقي البسيط في شيء”. قالت: “البعض يرى في المسيح، شخصية ضعيفة”. أجبتُ: “لقد كان المسيح قويًا قوة البساطة نفسها، وعظيمًا عظمة البساطة نفسها. إن الفخامة والضخامة اللتين تُخمدان شعلة القلب، لتشعلا نيران الجشع، هما آفات لا تمتُّ بصلة إلى الإيمان الحقيقي”. ترى ما معنى أن يكون الـ “صليب بلا حب”؟ سؤال أشتقُّه هنا تيمّنًا بإحدى روايات هاينرش بول. في البساطة هنا، سحر يتحدّى ألوهيّة البذخ والفخامة والضخامة والسلطة والثروة، ويدفع تاليًا، إلى خرْق نظامٍ خلقَته هذه الألوهية الزائفة، ومن ثم التمرّد عليها.

البساطة هنا، هي بصيرة مباشرة، تختلف حتمًا عن ذاك التبسيط المفتعَل.

“تجميل الفقر” مثلاً، ليس ببساطة، ولا ينفع الفقراء في شيء، التماهي وفقرهم عبر ارتداء جينزٍ ممزَّق على سبيل الموضة. هل يشعر مَن يلبس الجينز الممزق ترَفًا، بأوجاع من مزَّق ثيابَه الفقرُ والبؤس والتشرد؟!.

لا تنفع الفقراء أيضًا، أيديولوجيات فخمة وضخمة، “اشتراكية/رأسمالية”، و”رأسمالية/اشتراكية” متسلطة مستبدة، تخدم وحوش السلطة والنفوذ والمال متوسّلةً إلى ذلك بوسائل تمجيد الفقر والفقراء عبر الإبقاء على فقرهم، بل الاستمرار في إفقارهم أكثر فأكثر!. إن تبسيط الفقر أو تمجيده، إنْ هو سوى ضرب من فقر روحيّ وإنسانيّ.

البساطة هنا، هي بصيرة مباشرة، تقف ضد القتل الناجم عن ضخامة وتضخيم السلطة والثروة والنفوذ الأعمى، لكنها حتمًا ليست بمغرمة بالفقر، بل تسعى إلى هزيمته بكل الأشكال. إنها البساطة الأنيقة الرفيعة التي تشير إلى فيض اللانهاية، والتي تُعلي من شأن الإنسان والكرامة الإنسانية والحياة المحترمة التي يجب أن ينعم بها البشر، كل البشر.

 

*كاتبة سورية.

لغز القرية التي يسقط سكانها نيامًا لأيامٍ متواصلة مازال يعجز العلماء

وفاة المفكر السوري صادق جلال العظم في ألمانيا