in

صور نمطية ” فوتوغرافر”

كاريكاتير هاني عبّاس

فادي جومر

 

منذ اللحظة الأولى التي وصلتُ فيها إلى ألمانيا، امتطاني هاجس أقرب إلى الوسواس القهري بأن أتجنّب أي مظهرٍ أو سلوك، بل وحتى أي شعور، يعزز الصورة النمطية التي قيل لي إنّ الألمان يحملونها عنّي، وليس بالضرورة عني كفرد، فالتعامل معي كفرد مستقل متمايز “سلبًا أو إيجابًا” هو حلم يصل لدرجة الوقاحة في هذه البلاد، عليّ تجنب الصورة النمطية التي تراني كحبة بطاطا في “شوال” كبير.

بدايةً، اضطررت لترك الجواري في خيمتي الصحراوية، وقصصت كل “غلابياتي” لتبدو كقميص غريب الأطوار، ورميت برميل النفط الذي أحمله عادة معي أينما ذهبت لأبيع منه وأنفق على ملذاتي عند الحدود، قلّمت أظافري، فأنا لن أحتاجها هنا للصيد، لأنهم أخبروني أن الطعام متوفر في المحلات، وللأسف لم أجد حلاً لأنيابي البارزة، فوضعت في فمي تفاحة كبيرة لتغطيها، وقطعت الحدود بأمان.

في “الكامب” كنتُ أقف بانتظام في الطابور، حتى إن لم يكن أمامي أو خلفي أحد. أنا إنسان أعشق النظام والطوابير، رسمت على وجهي ابتسامة عريضة ككتفي الموظف العملاق عند الباب، رغم أخبار القصف اليومي على أهلي، وأخبار أصدقائي العالقين في جحيم اليونان، حافظتُ على ابتسامتي العريضة فلن أسمح بأن أعزز تصورات الألمان أننا شعب لا يبتسم.

تلمّظتُ حتى تشققت شفتاي وأنا أتناول طعام الكامب الذي كان تقريبًا بجودة أول تجربة طبخ لرجل لم يدخل المطبخ يومًا، ولكن هذا لا يهم، عليّ أن أتلمظ، ويجب أن يعرف الألمان أني لستُ جاحدًا ولا متطلبًا كما يعتقدون.

تعاملت مع المطبوعات التي تعلّمني استعمال المرحاض باهتمام بالغ، فربما كان فيها معلومات جديدة، تخيلوا أي كارثة قد أتسبب بها إن عززت ظنون الألمان بأني لا أتقن فنّ استعمال المرحاض!!

في أول موعدٍ لي مع ألماني أتى مع صديق عربي مقيم هنا منذ سنوات، اضطررت لربط الجَمَل قبل مكان الموعد بمحطة، والذهاب إلى الموعد بالقطار، واشتريت صحيفتين وكتابًا، ليعرف الألمان أني أقرأ أحيانًا، وقارورتَيْ ماء بدل القِربة، وموزةً بدل الخروف المشوي الذي أضعه عادة في حقيبتي، أقصد في “بقجتي”، وانطلقت في القطار. اشتريت تذكرتين، من باب الاحتياط، فقد قيل لي إن الألمان يعتقدون أن اللاجئين يركبون دون شراء تذاكر، حسنًا سأبهر المراقب والركاب بالتزامي الصارم وأظهر التذكرتين، وأتحدى أن يكون ثمة ألماني أكثر التزامًا مني. ولسوء حظي انتهت رحلتي ولم يظهر المراقب، ولم أستطع إبهار أحد.

وصلتُ قبل الموعد بساعة، أجل، فأنا لن أتهاون في محاربة الصورة النمطية التي يحملها الألمان عنّا بأننا نتأخر في مواعيدنا، جلست في المقهى أنتظر صاحبي. وجاء النادل ليسألني ماذا أريد أن أشرب، عليّ أن أكون حكيمًا، وأن أستغلّ هذه الفرصة لتمزيق الصورة النمطية عن اللاجئين وما يشربونه، لن أطلب شايًا أو قهوة، على هذا النادل أن يعرف أنّي من أسرة تصنع النبيذ من قبل أن يولد بسمارك، ورغم أني لا أحب النبيذ، ورغم الطقس الحار، طلبت نبيذًا فرنسيًا غير نمطي، لا أعرف بالضبط كيف عرفت أنه غير نمطي، لكن ملامح النادل التي لم تقل شيئًا، أكدت لي عدم نمطيته.

قبالتي، جلست فتاة متوسطة الجمال، في أوائل العقد الثالث من عمرها كما يبدو، وبعد جلوسي بلحظات بدأت نظراتها بالتركيز علي، وأنا محدّق في كأس النبيذ كمصاب بالذهان، حتى جاءني النادل بكأس آخر قائلاً لي إنه منها، رفضته بكل حزم، أتظنني هذه الفتاة متحرشًا؟ اللعنة على الصور النمطية وعلى الفوتوغرافر الذي التقطها! لا يا سيدتي، ليس لك الحق باعتباري متحرشًا لمجرد أني أحمل ملامح شرقية، أنا لا أهتم بك ولا بغيرك، أنا أتكاثر بالتبرعم!

اتصل صديقي ليخبرني أنه سيتأخر، وأن الفتى الألماني سيصل قبله، وأنه أرسل له صورتي ليعرفني، وصل الألماني وعرفني، كم من الصعب أن تجد كرةً بين بضعة أعمدة؟ اقترب مبتسمًا: “هير يوماغ؟” ابتسمت وقلت “يا.. يا” فجلس كأنه يعرفني قبل أن أولد، وبدأ حديثه بمزيج من الألمانية ولغة الإشارة، وأنا ضائع تمامًا في هذه الطلاسم، قاطعته لأسأله إن كان يتحدث الإنكليزية، تغيرت ملامحه وكأنه اكتشف تمساحًا ناطقًا، وبدأ باحتفال عجيب: ” أنت تتحدث الإنكليزية؟ أوه هذا رائع! لم أكن أعلم أنكم تتحدثون الإنكليزية، هذا جيد جيد، وبطلاقة أيضًا؟ يا للسماء! أنت ملفت حقًا!” وأنا أحاول أن أخبره أني سعيد بأن تحدثي لغةً يتحدثها نصف سكان الكوكب سبّب له كل هذه السعادة، باغتني بسؤال عن عملي، وقررت التروي، أجل، أنا حريص على تمزيق الصورة النمطية، ولكني حريص على الرجل أيضًا! فإذا كان تحدثي بضع جمل بالإنكليزية سببًا لكل هذا الانفعال، فأنا أخشى أن يصاب بذبحة قلبية أو ما شابه إن عرف أني أحمل إجازة في إدارة الأعمال! وأن هذا “نمطيّ” حتى الملل في بلادي!.

 

أمسية ثقافيّة سوريّة في جامعة ماينز الألمانية

بيت العائلة.. من يوميات المنفى