in ,

بين اغترابين

سامي حسن | كاتب فلسطيني مقيم في ماينز

يعيش السوريون، وغيرهم من اللاجئين، حالة من الاغتراب في البلدان التي لجؤوا إليها. وهي ظاهرة طبيعية ترتبط بحالة الانتقال من مجتمع إلى آخر وبظروف ومتطلبات العيش في المجتمع الجديد. لكن ماذا عن اغتراب السوريين في وطنهم؟! هل ثمة اغتراب كان لاجئوا اليوم قد عانوا منه في سورية بالأمس؟.

السؤال هنا يتعلق بفترة ما قبل اندلاع الثورة السورية أواسط آذار 2011. أما السنوات الست الماضية أي مرحلة ما بعد الثورة وانعكاساتها على المجتمع السوري فالحديث عنها يتجاوز هكذا مقال.

لا يمكن لمن عاش عقودا تحت وطأة الاستبداد والقهر والظلم والاستغلال، إلا أن يعاني، كما أظن، اغترابًا ما، اجتماعيا، ثقافيا، نفسيا أم اقتصاديا …إلخ. وهو اغتراب يرتبط بقضايا الهوية والانتماء والحرية والكرامة والعدالة وتحقيق الذات وغير ذلك. وعليه يمكن القول إن شريحة السوريين المغتربين في سوريا، لم تكن بالشريحة الضيقة. فهي تضم أولئك الذين عارضوا النظام المستبد، ودفعوا أثمانًا باهظة نتيجة لذلك.  وأولئك الذين رفضوا التماهي مع ثقافة النفاق والفساد والانتهازية التي كانت من منجزات هذا النظام. كما تضم أولئك الذين تمردوا على القيم والعادات الاجتماعية المتخلفة السائدة، والذين تمسكوا بهويتهم الوطنية السورية في مواجهة هويات مشوهة  ذات بعد طائفي أو عشائري، والتي أيضا لعب النظام وسياساته دورًا رئيسيا في تكريسها.

إذن، كان من الطبيعي أن يعيش كل من يرفض الواقع ويتمرد عليه، حالة من الاغتراب، بهذا القدر أو ذاك، في بلده سوريا. لذلك، يصح القول إن الهجرة هي إعلان ببدء العد العكسي للخلاص من بعض أشكال أو أنواع الاغتراب. لكنها في الوقت نفسه، وللأسف، إعلان ببدء أشكال جديدة منه في بلدان المهجر أو اللجوء؟! بعض هذه الأشكال لا علاقة له بكون المرء لاجئًا، مهاجرًا أم مواطنًا أصليا، فهي ترتبط على سبيل المثال بضغوطات الحياة والعمل، والسلعنة التي تطال البشر، والنمطية والروتين و…إلخ. أما الاغتراب المرتبط بموضوع الهجرة، فيمكن القول إن الغربة بما تعنيه من ابتعاد عن بلد فيه ولدنا وكبرنا، ولنا فيه أحبة وذكريات، هي اغتراب. فهي اشبه باقتلاع نبات من جذوره وتربته وبيئته، رغم كل ما يمكن أن يقال عن ظروف النمو غير الطبيعية وغير الملائمة. وعلى رغم الوعي الذي قد يكون عابرًا للقوميات، والقناعة بالانتماء للانسانية، والتكامل بين الثقافات، إلا أن ذلك لا ينفي، كما أظن، حقيقة أن هذه البلاد الجديدة (ألمانيا على سبيل المثال) هي ببساطة ليست بلادنا. أو بمعنى أدق لم تصبح كذلك بعد. ويبدو لي أن تحقيق ذلك يتطلب وقتًا أطول مما توقعه بعضنا؟.

ورغم أن نسج علاقات وتكوين صداقات مع السكان الأصليين (الألمان على سبيل المثال) ليس بالأمر الصعب، لاسيما أنهم يمتازون عموما بالطيبة والصدق والإنسانية وغيرها من الصفات الإيجابية التي لطالما لعنا ومازلنا نلعن نظامًا عاث بها تخريبا وتشويها. لكن مع ذلك يشعر المرء بأن هناك مسافة ما تفصله عنهم. هذه المسافة هي شكل من أشكال الاغتراب وسبب من أسبابه.

لكن كيف يتم جسر هذه المسافة؟ الإجابة عن هذا السؤال تنقلنا للحديث عمّا يمكن أن أسميه بالاغتراب الأكبر، والمرتبط بموضوع اللغة الجديدة (اللغة الألمانية على سبيل المثال) الواجب تعلمها. فاللغة هي أداة التفاعل والتواصل الرئيسة مع الآخرين. من خلالها نعبر عن أفكارنا ووجهات نظرنا ومشاعرنا. ونفهم الآخرين، وهي أداتنا لتحصيل المعرفة. والمشكلة في موضوع اللغة ليست في تعلم ما يجعلك قادرًا على تسيير أمورك الحياتية اليومية، والتواصل مع الآخرين والحصول على عمل ما، و إلى ما هنالك. المشكلة مع اللغة هي كيف ومتى تتقنها أي تتملكها وتفكر بها، بحيث يصبح بإمكانك التعبير بدقة وعمق عن أفكارك ووجهة نظرك ومشاعرك؟. متى يكون بإمكانك، على سبيل المثال، حضور أمسية شعرية أو المشاركة في ندوة ثقافية أو سياسة، أو قراءة كتاب في الفلسفة، أو كتابة هذا المقال باللغة الجديدة وليس ترجمته إليها؟.

بانتظار تحقق ذلك، الذي يبدو لي أنه سيستغرق وقتًا ليس بالقصير، سيعاني اللاجئون من الاغتراب بأشكاله المتعددة. كأن قدر الشعوب التي ابتليت بالاستبداد واللجوء، أن تعيش الاغتراب مرتين الأولى في الوطن والثانية في المنفى. وهما اغترابان أحلاهما مر!.

لافروف في جولة للتسويق لـ الدستور السوري الجديد

د. محمد شحرور: الإسلام والمسلمون وسؤال العنصرية